موصى به لك

الأقسام

الأعلى تقييمًا

    أعمال أصلية (RO)

      الأفضل شهريًا

        ما بين خطوط الصمت - روايه رومانسيه

        ما بين خطوط الصمت

        2025, Aya Haddad

        رومانسية

        مجانا

        قصة حب واقعية كُتبت على أنقاض الانتظار إلى أولئك الذين أحبّوا بصدق… ثم خذلهم الوقت، والظروف، والنهايات الغامضة. إلى من اختاروا الرحيل، رغم أن كل تفاصيلهم ما زالت عالقة… وإلى أولئك الذين بقوا، حتى بعد أن أُغلق الباب في وجوههم مرات ومرات… هذه الحكاية لكم. حكاية لم تنتهِ، بل تجمّدت في لحظة ودٍّ لم تُقال، وفي عناقٍ لم يحدث، وفي رسالة لم تُرسَل

        ليلى

        ....

        آدم

        ....
        تم نسخ الرابط
        ما بين خطوط الصمت

        لم أكن أبحث عن الحب…
        ولم يكن هو يبحث عني.
        لكننا التقينا، في صدفة لم تكن بريئة، وفي وقتٍ كان كلانا فيه مكسورًا بطريقة ما.
        
        رواية "ليلى وآدم" ليست مجرد قصة عن عاشقين.
        إنها حكاية عن التناقض، عن الخوف من القرب، والرغبة فيه في آنٍ واحد.
        عن من يهرب من الحب لأنه يخشى أن يضعف، ومن تطارده الذاكرة حتى بعد أن ودّع.
        
        ليلى… كانت تلك الفتاة التي أصرّت أن تُحبّه، رغم أنه لم يطلب منها ذلك.
        وآدم… كان ذلك الرجل الذي لم يعرف كيف يُحب، لكنه لم يستطع أن يمنعها من البقاء.
        
        هذه ليست نهاية سعيدة، لكنها ليست نهاية حزينة أيضًا.
        إنها مجرد حكاية… من الحياة.
        الفصل الأول: "أول خيط"
        
        كنت أعبر مرحلة ساكنة من عمري، لا فرح ولا حزن… فقط هدوء يشبه الاستسلام.
        كل شيء حولي كان منتظمًا حدّ الاختناق: العمل، البيت، العلاقات السطحية، وخطبة باهتة لرجل لم أستطع يومًا أن أحبه، رغم كل محاولاتي.
        
        كان داخلي فراغ صغير لا يُرى، لكنه كان يؤلمني كل ليلة.
        
        ثم… دخل آدم.
        
        لم يكن دخوله يشبه دخول الأبطال، ولا يشبه خيالي القديم عن الرجل الذي يهز كياني.
        بل دخل بهدوء موظف جديد في شركة، عادي جدًا، لا يلفت الأنظار، ولا يحب أن تُسلط عليه الأضواء.
        
        في اليوم الأول، لم ألتفت له… لم يكن "ستايلِي".
        متوسط الطول، أبيض البشرة، يضع نظارات طبية، يلبس دائمًا بطريقة مرتبة أكثر من اللازم.
        لكنه بدا مختلفًا دون أن أفهم السبب.
        
        بدا كمن يحمل سره في جيبه الخلفي، ويمشي في الحياة بخطوات محسوبة.
        لم يكن يضحك كثيرًا، ولم يكن يحاول أن يتقرب من أحد.
        
        بدأت قصتنا برسائل.
        لا أعرف من كتب أول رسالة، لكنّي أعرف أن أول خيط رُمي نحوي كان منه.
        كان كلامه بسيطًا، لا يحمل مشاعر مباشرة، لكنه مكتوب بطريقة تشبهه: هادئة، عميقة، وغامضة.
        
        كنت مخطوبة وقتها، أعاني داخليًا، وأُقنع الجميع أني بخير.
        لكني لم أكن بخير.
        وآدم… آدم كان يشبه الهدوء الذي كنت أبحث عنه، دون أن أعرف.
        
        كنت أقول لنفسي إن الأمر لا يتعدى بعض رسائل عابرة.
        لكن في كل مرة كان يكتب لي، كنت أقترب أكثر دون أن أشعر…
        لم تكن رسائل حب.
        لم تكن حتى رسائل اهتمام واضح.
        لكنها كانت تشبه شخصه تمامًا: قليلة، موزونة، لا تقول الكثير… لكنها توصل أكثر مما تكتبه.
        كنت أعيد قراءتها في الليل، أبحث عن جملة لم أنتبه لها، أو نقطة نهاية تغيّر المعنى.
        
        أحيانًا كنت أضحك… ليس لأن شيئًا مضحكًا قيل، بل لأن قلبي كان سعيدًا فقط لأنه كتب لي.
        كان يكفي أن أرى اسمه على هاتفي، حتى أستعيد نفسي لبضع دقائق.
        
        مع الوقت، بدأت أبحث عن إشاراته… أنتظر رسائله.
        كنت أغضب لأنه لا يُبادر، ولا يقول شيئًا واضحًا.
        لكني لم أبتعد.
        
        كنت أعرف أن هناك شيئًا فيه لا يُقال.
        وأنا من طبعي أحب الأشياء الغامضة، حتى لو أحرقتني.
        
        ربما كنت أتوهم، وربما كنت أرى فيه شيئًا لا يراه غيري…
        لكني كنت متأكدة من شيء واحد:
        أول خيط بيني وبينه قد بدأ.
        الفصل الثاني: "صوت غير مسموع"
        
        كنت أهرب من التفكير كلما اقترب اسمه من رأسي،
        لكن اسمه كان خفيفًا، يتسلل كهمسة بين أفكاري، يدخل دون استئذان…
        كأنه فكرة لا أعرف كيف أتجاهلها، ولا أملك الشجاعة لمواجهتها.
        
        لم يكن هناك شيء واضح…
        لا بداية، لا وعد، لا حتى لحظة واحدة أقول عنها: "من هنا بدأت قصتي."
        لكن رغم ذلك، كنت أشعر.
        كنت أشعر به في كل لحظة صمت، في نظرة سريعة، في رسائل قصيرة لا تقول الكثير لكنها تفتح في داخلي كل الأبواب.
        
        …
        
        كلما كتبت له، قلت لنفسي: "لا بأس… مجرد مجاملة، لا شيء أكثر."
        ثم أقضي الليل وأنا أعيد قراءة الرد، كلمة بكلمة، أحاول استخراج معنى خلف السطر.
        
        أحيانًا كنت ألوم نفسي:
        "كيف تسمحين لنفسك أن تفرح بجملة لا تحمل وعدًا؟"
        لكني كنت أفرح رغمًا عنّي، وأشتاق أكثر رغم كل الحذر الذي أبنيه حولي.
        
        …
        
        في العمل، كل شيء يبدو طبيعيًا جدًا… إلى حدّ السخف.
        آدم يدخل المكتب بهدوء، يعمل بتركيز، يرد على الأسئلة بجمل قصيرة، ثم ينسحب بنفس الطريقة التي دخل بها.
        ولا أحد يلاحظ شيئًا…
        إلا أنا.
        وأحيانًا، سهى.
        
        زميلتي الوحيدة التي تشعر بما لا أقوله.
        لم نتحدث كثيرًا، لكنها كانت ترى التفاصيل الصغيرة…
        نظري كلما دخل الغرفة، أو شرودي كلما وردت منه رسالة.
        
        في أحد الأيام، كنّا في استراحة قصيرة، جلستْ بجانبي وسألتني:
        — "تحبين الهدوء، صح؟"
        قلت بابتسامة باهتة:
        — "أحيانًا… وأحيانًا أكرهه."
        ردّت وهي ترفع كوب القهوة:
        — "الهدوء لما يكون حقيقي، يريح. لكن لما يكون بينك وبين شخص، يُتعب."
        ثم نظرت إليّ وقالت:
        — "هو هادئ… لكنك لستِ مرتاحة."
        
        …
        
        تلك الليلة، حملت كلامها معي مثل ورقة مطوية داخل صدري.
        كنت أتقلب في سريري، قلبي يريد أن يصدّق، وعقلي لا يرى شيئًا حقيقيًا.
        هل أنا فعلاً أتخيل؟
        هل كل ما يحدث مجرد صدى في داخلي، لا يسمعه سواي؟
        أم أن هناك إشارات لا أراها بوضوح، لكنه يرسلها بخجل؟
        
        …
        
        رسائله لم تكن كثيرة، ولم تكن تحمل أي وعود.
        لكنه لم يتوقف عن الرد.
        لا يفتح مواضيع طويلة، ولا يسأل كثيرًا، لكنه هناك… دائمًا هناك.
        وكأن وجوده بحد ذاته، نوع من الاهتمام الهادئ، المختلف… الخطير.
        
        أحيانًا أكتب له جملة، ثم أمسحها.
        أكتب "كيف كان يومك؟"، ثم أغيّرها إلى "مساء الخير."
        كأنني أخاف أن أكشف ما بداخلي… أو أن أخسره دون أن أملكه.
        
        …
        
        بعد يومين، رأيته يمرّ بقربي في المكتب.
        كنت أتناول قهوتي، أنظر من النافذة، لكنه مرّ بهدوء تام.
        لم يلتفت، لم يتكلم، لكن قلبي ارتبك كما لو أنه صاح باسمي.
        
        تلك التفاصيل الصغيرة هي التي تُربكني…
        كيف يمكن لنظرة، لحركة، لكلمة واحدة… أن تغيّر حالتي الداخلية تمامًا؟
        كيف لرجل صامت، لا يطلب شيئًا، أن يأخذ هذا الحيّز مني؟
        
        …
        
        في المساء، اتصلت بي ربى — صديقتي الأقرب، صوتي الآخر خارج كل هذا الصمت.
        كنت أحتاجها كثيرًا، وأخاف منها كثيرًا… لأنها تقرأني كصفحة مفتوحة.
        
        قالت لي:
        
        — "أين وصلت قصتك؟"
        قلت دون تفكير:
        — "لا قصة، فقط أنا… وبعض الشعور."
        ضحكت وقالت:
        
        — "ليلى، أنتِ لا تعرفين كيف تشعرين قليلاً… أنتِ إمّا تحبين، أو تهربين."
        سكتُّ.
        ربى تعرف أني أهرب منذ سنوات، من شعور، ومن ذكرى، ومن وجع سابق لا يتركني.
        
        …
        
        قالت بصوتها الهادئ:
        
        — "أنا لا أُحب أن أراكِ في مكان رمادي. إما أن يكون معك… أو لا يكون."
        قلت:
        — "وأنا أخاف أن أخسره لو حاولت أن أعرف."
        ردّت بهدوء مؤلم:
        
        — "ربما تخسرينه وأنتِ صامتة أيضاً."
        
        …
        
        أغلقت الهاتف وجلست في الظلمة.
        لا موسيقى، لا ضوء، لا شيء… فقط قلبي ومئة سؤال لا جواب له.
        هل أنا أحب؟
        هل هو يشعر؟
        هل هذا طريق، أم متاهة؟
        
        لكن رغم كل الشكوك… كنت أجد نفسي أكتب له مجددًا.
        أكتب دون أن أرسل… أكتب كي لا أنفجر.
        
        …
        
        في الليل، كتبت في مذكرتي:
        
        *"أشعر به رغم بعده،
        وأسمعه رغم صمته،
        وأفهمه رغم أنه لا يفسّر شيئًا…
        
        أنا فقط… أسمع صوته من بين كل هذا الصمت."*
        الفصل الثالث: **"خطوة غير متوقعة")
        
        لم أكن أنتظر منه شيئًا…
        ولا حتى نصف جملة، ولا حتى سؤالًا عابرًا.
        آدم لم يكن من ذلك النوع الذي يُظهر اهتمامه كما يتوقعه الآخرون.
        هو لا يسأل إن كنتِ أكلتِ، ولا يكتب "طمنيني"، ولا يظهر قلقًا صريحًا حين أغيب.
        لكنه… يمرر إشاراته بطرق لا تُدرّس في كتب العلاقات.
        بطريقته هو.
        الصامتة، المحسوبة، المشوشة.
        
        …
        
        كان ذلك الصباح مملاً ككل الأيام.
        لكن الملل يتغير حين تكونين في طور التعلّق.
        حتى الهواء الذي يمرّ قربه، يصبح مختلفًا.
        
        دخل آدم متأخرًا بخمس دقائق،
        كان أول تفصيل لاحظته.
        هو نادر التأخير… يعني أن هناك خللًا بسيطًا في نظامه المعتاد.
        لكنه لم يُظهر أي توتر.
        وضع حقيبته، جلس، فتح الحاسوب، ثم نهض بعد قليل واتجه ناحية مكتب المديرة.
        
        هناك… وقف أمامي.
        
        لكنه لم يكلّمني.
        لم ينظر.
        كان يتحدث معها، بصوت أعلى من المعتاد، يضحك بخفة، يتمايل قليلًا،
        كأنه يمثل مشهدًا أمامي فقط.
        
        أشعر به وهو يختار نبرة صوته…
        كيف يتكئ على الكرسي بطريقة غير عشوائية،
        وكيف يلتفت كل بضع ثوانٍ، لا إلي، بل باتجاهي العام.
        
        هل كان هذا حقيقيًا؟
        أم أنني فقط… أتوهم؟
        
        …
        
        سهى لاحظت.
        لم تكلمني مباشرة، لكنها ابتسمت لي ابتسامة مليئة بالمعنى.
        
        بعد الاستراحة، ونحن نرتب أوراقًا عادية، اقتربت مني وهمست:
        
        — "يعجبني كيف يتعمّد أن يكون مرئيًا، دون أن يقول لكِ شيئًا."
        نظرت لها، شعرت بقلبي يرتجف.
        فقالت بنبرة هادئة:
        
        — "ليلى… آدم لا يضحك بهذا الشكل مع المديرة عادة.
        ولا يقف عند مكتبك بهذا التكرار.
        هو يعلم أنكِ تلاحظين… بل يريدك أن تلاحظي."
        
        سألتها بشك:
        
        — "وإن لم يكن يقصد شيئًا؟"
        ردت بابتسامة باهتة:
        
        — "حتى لو لم يقصد حبًا… فهو يقصد إثارة مشاعر معينة. الغيرة؟ التوتر؟ ربما."
        
        …
        
        مرت الساعات، وأنا أفكر فقط:
        "هل أنا هدف غير معلن؟"
        "هل هو يستمتع بإرباكي، أم أن هذه طريقته الوحيدة للقول بأنه يلاحظني؟"
        
        وفي مساء اليوم نفسه، وبينما كنت على هاتفي، قلبت في صور حسابي الشخصي.
        توقفت عند تلك الصورة…
        التي ارتديت فيها قلادتي الجديدة…
        تحمل اسمي.
        
        كانت صورة أحببتها كثيرًا، لأنني شعرت فيها أنني أنا.
        ولأني أظهرت اسمي فيها، بلا خجل، ولا تحفظ.
        
        وبينما كنت أتفقد التعليقات،
        وصلتني رسالة منه.
        
        "صورتك الأخيرة… مقلوبة."
        قرأت الرسالة مرتين.
        ثلاث مرات.
        "مقلوبة؟"
        ماذا يعني؟
        
        أجبته:
        
        "مقلوبة؟"
        
        رد:
        
        "الاسم… لا يُقرأ. القلادة بالمقلوب."
        
        رفعت حاجبي بدهشة.
        أي دقة هذه؟
        كيف انتبه؟
        ومن قال إنه ينظر لهذه الدرجة؟
        
        قلت له بسخرية:
        
        "وأنت تقرأ كثيرًا؟"
        
        ردّ بكلمة واحدة، أربكتني:
        
        "فقط عندما يكون اسمك مكتوبًا."
        
        …
        
        وضعت الهاتف جانبًا.
        ضربات قلبي لم تعد منتظمة.
        هو لا يُظهر إعجابًا مباشرًا، ولا يقول أي جملة قد تفسر على أنها اعتراف…
        لكن لماذا هذه الجملة تحديدًا؟
        لماذا الاسم؟
        لماذا الآن؟
        
        …
        
        في اليوم التالي، عاد ليُكرر المشهد نفسه.
        جاء، وقف أمامي، ضحك مع المديرة، وتجاهلني تمامًا…
        كما لو أنني غير موجودة،
        لكنه… جعلني أحس بوجوده أكثر من أي وقت مضى.
        
        سهى لم تسأل هذه المرة، لكنها ابتسمت من بعيد.
        فأنا من همست لها:
        
        — "يعرف أنني أغار، أليس كذلك؟"
        قالت بثقة:
        
        — "ويحب أن يراكِ تضعفين… لأن هذا نوعه من السيطرة."
        ثم أضافت:
        
        — "هو لا يريدك أن تفهمي تمامًا… ولا أن تهربي تمامًا.
        يريدكِ عالقة… ومربكة… ومشتتة."
        
        …
        
        في المساء، اتصلت بي ربى،
        سألتني عن يومي، فقصصت عليها المشهد كاملاً.
        ضحكت ثم قالت:
        
        — "وهل تتفاجئين؟ آدم لا يقول، لكنه يُشعر.
        وأنتِ… ممن يقرأون الأحاسيس قبل أن تُكتب."
        
        قلت لها:
        
        — "أخاف أن أُخطئ في القراءة."
        أجابتني بصوتها الواثق:
        
        — "لا بأس أن تخطئي، لكن لا تَصمتي إن شعرتِ أن قلبك يتكلم."
        
        …
        
        في تلك الليلة، لم أنم باكرًا.
        كتبت له جملة ولم أرسلها:
        
        "هل كنت تنظر إليّ فعلًا… أم أنني أتخيل؟"
        
        ثم مسحتها.
        وكتبت أخرى:
        
        "كل مرة تمرّ أمامي، تترك في رأسي فوضى لا تليق برجل صامت."
        
        ثم أغلقتها، ونمت.
        
        لكنني أعرف…
        أنني لم أعد كما كنت.
        وأن آدم، بطريقته الخاصة،
        أخذ خطوة غير متوقعة…
        خطوة صغيرة…
        لكنها هزّت كل توازني.
        الفصل الرابع: "حين يبدأ الشك يتكلّم"
        
        ⸻
        
        كنت أحاول أن أُقنع نفسي أنني بخير.
        أن الأمور تحت السيطرة…
        أنني أستطيع الانسحاب متى أردت،
        أنني قوية كفاية لأوقف كل شيء بقرارٍ واحد.
        
        لكنّ قلبي كان يعرف أنني أكذب عليه.
        
        كان يعرف أنني، كل يوم، أستيقظ على انتظار غير معلن…
        انتظار نظرة، كلمة، إشعار…
        أي شيء بسيط يدلّ على أنه يراني فعلًا، كما أراه أنا.
        
        …
        
        آدم لم يتغير.
        ما زال هو… صامت، غامض، لا يقول الكثير، لا يعد بشيء.
        لكن المشكلة أنني تغيرت.
        أصبحت أقرأ صمته كما لو كان رواية طويلة بلا غلاف،
        كل نظرة منه أترجمها،
        كل تجاهل أحلله،
        وكل لحظة عادية تمرّ بيننا… تصبح حدثًا داخليًا عندي.
        
        …
        
        "سهى"، زميلتي التي لا يفوتها شيء، كانت تراقبني بصمت، ثم تقطع الصمت بعبارة مفاجئة.
        
        ذات صباح، بينما كنّا نرتب ملفات قديمة، قالت دون مقدمات:
        
        — "آدم ذكي جدًا… يعطيكِ إشارات صغيرة، ويتركك تفسّرين كل شيء."
        نظرت لها، متعبة من التفكير، وقلت:
        
        — "لكنني تعبت من التفسير… تعبت من انتظار شيء لا يأتي."
        ابتسمت وقالت:
        
        — "لكنكِ لا تتوقفين عن انتظاره، أليس كذلك؟"
        أومأتُ برأسي بصمت.
        
        …
        
        في المساء، التقيت "ربى" في أحد المقاهي وسط المدينة.
        كان مزدحمًا، لكننا اخترنا زاوية هادئة في الداخل، قرب النافذة،
        حيث تمرّ السيارات ببطء، والناس يعبرون، والحياة تبدو وكأنها لا تهتم بمن يتألّم في صمت.
        
        ربى، التي لا أحب أن أكذب أمامها، سألتني مباشرة:
        
        — "هل تحبينه؟"
        أخذت وقتًا في الرد، ثم قلت:
        
        — "لا أعلم إن كنت أحبه… أو فقط أبحث عن حبٍ فيه."
        أجابت بهدوء:
        
        — "هل تريدينه لأنه يشبه ما حلمتِ به؟ أم لأنك تخافين أن تفقدي شعورك نحوه؟"
        قلت بعد صمت:
        
        — "أظنني فقط… تعبت من الفراغ، وأخاف من أن يكون كل ما بيننا وهمًا من طرفي فقط."
        ربى رفعت كوبها وقالت:
        
        — "الفراغ لا يُملأ بأحد صامت يا ليلى. لا تدفني مشاعرك في شخص لا يفتح لك الباب."
        
        …
        
        تلك الليلة، عدت للبيت بعينين متعبتين.
        فتحت هاتفي، قلبت في رسائلنا،
        لم تكن كثيرة، ولا طويلة، لكنها تسرقني كلما عدت إليها.
        
        كتبت له:
        
        "هل كنت تنظر إليّ فعلاً… أم أنني أتخيل؟"
        
        ثم مسحت الجملة،
        وكتبت:
        
        "كل مرة تمرّ أمامي، تترك في رأسي فوضى لا تليق برجل صامت."
        
        ثم مسحتها أيضًا.
        
        أغلقت المحادثة، وأغلقت قلبي مؤقتًا.
        
        …
        
        في الأيام التي تلت، قررت أن أكون أبرد.
        أن أراقب دون أن أبادر.
        أن أبتسم دون أن أكتب.
        أن أبدو بخير، حتى وأنا أشتعل.
        
        لكن آدم… لم يتغيّر.
        ما زال يمرّ بجانبي، يتحدث مع المديرة بصوت مرتفع، يضحك كما لو أنه في مشهد مسرحي أمامي.
        لا يكلّمني، لا يختفي، لا يتقدم، لا يتراجع.
        
        وهذا… كان يُربكني أكثر من الرفض.
        
        …
        
        كنت أبحث عن أي وضوح، عن كلمة بسيطة:
        "أنا أراكِ"
        أو حتى:
        "توقفي عن التوهم"
        
        لكنّ آدم لا يعطيك إجابة.
        هو فقط يُبقيكِ في منتصف الطريق،
        تتقدمين خطوة، وتتراجعين اثنتين…
        ولا تعرفين إن كنتِ تمشين نحوه، أو تدورين حول نفسك.
        
        …
        
        في إحدى الليالي، كتبت في مفكرتي:
        
        "كل ما أحتاجه… أن أسمع منه شيئًا ينهي هذا الصمت.
        ولو كانت النهاية…
        فأنا أفضل جرحًا واضحًا، على خيبة طويلة بلا صوت."
        
        ثم أغلقتها، وأطفأت النور، ونمت.
        
        لكنني نمت وأنا أشعر…
        أنني بدأت أضع رجلي الأولى على حافة الانسحاب.
        ليس لأنني لا أحبه،
        بل لأنني بدأت أشك أنني أحبّ… من لا يشعر بي.
        الفصل الخامس: "نقطة الانكسار"
        
        (النسخة الجديدة – أطول، أعمق، وفيها أحداث أكثر)
        
        ⸻
        
        يقال إن من يحب، لا يحتاج إلى علامات واضحة،
        مجرد غيابه… يفضح مكانه.
        
        وفي صباح ذلك اليوم،
        شعرت أن شيئًا ناقصًا منذ أن دخلت المكتب.
        
        الكرسي المقابل لم يكن مأهولًا،
        الصمت أكبر من المعتاد،
        ووجه آدم… غائب.
        
        تفقدت المكان بسرعة،
        كأني أحاول التأكد أنه فقط تأخر.
        لكن الساعة تجاوزت التاسعة.
        ثم العاشرة.
        ولم يظهر.
        
        …
        
        حاولت أن أبدو مشغولة،
        أن لا أفكر، أن لا أراقب الباب في كل مرة يُفتح،
        لكنني كنت أفعل بالضبط كل ما لا أريد فعله.
        
        كل زميل يدخل… يُربكني.
        كل ظل يمرّ… أتوهمه هو.
        
        …
        
        سألت سهى، بنبرة لا مبالية:
        — "آدم ما جا حتى الآن؟"
        رفعت حاجبيها:
        — "لا… ما شفتو، يمكن عطلة ولا مريض؟ ما قالك؟"
        
        هززت رأسي بابتسامة قصيرة:
        — "ما عندي فكرة."
        
        وكأننا لا نعرف بعض.
        وكأن كل تلك الإشارات السابقة كانت مجرد أوهام.
        هو يغيب… ولا يُخبرني.
        ولا حتى برسالة واحدة.
        
        …
        
        طوال النهار، كنت أقاوم رغبة عارمة في مراسلته.
        أن أكتب شيئًا بسيطًا:
        
        "كل شيء بخير؟"
        أو حتى كلمة واحدة:
        "اليوم؟"
        
        لكنني لم أفعل.
        لا لأنني لا أشتاق، بل لأنني خفت من الردّ.
        خفت أن يقول:
        
        "آه، نسيت أخبرك."
        خفت أن يضعني في مكاني، البعيد، الباهت، غير المهم.
        
        …
        
        خلال الاستراحة، جلست وحدي.
        لم أذهب مع سهى،
        ولم أتظاهر بالقوة.
        كنت متعبة.
        لكن الأهم:
        كنت خائفة.
        
        خائفة من أن يكون قد انسحب بصمته،
        كما جاء… يختفي.
        دون مقدمات.
        ودون حتى فرصة لأقول له إنني… تعبت.
        
        …
        
        في المساء، خرجت مع ربى.
        كنا نسير في الشارع الذي تعودنا عليه، بين الواجهات الصغيرة والدكاكين القديمة.
        سألتني وهي تلتفت لي:
        
        — "كنتِ غائبة اليوم… بالك مش هنا، وش صاير؟"
        أجبتها دون تردد:
        
        — "ما جا آدم."
        ضحكت بخفة وقالت:
        
        — "تشوفي؟ وجوده دخل في روتينك… غيابه يقلقك أكثر من حضوره."
        
        صمتُّ.
        ربى نظرت إليّ مجددًا وقالت:
        
        — "وهذا خطر يا ليلى… أن يكون قلبك مرتبطًا بشخص لا يعطيك ضمان بوجوده."
        أومأت بصمت.
        لم أكن أريد سماع الحقيقة… لكنني كنت أحتاجها.
        
        …
        
        عدت للبيت،
        فتحت هاتفي مرارًا.
        ولا رسالة منه.
        
        ولا حتى قصة منشورة.
        ولا ظهور.
        ولا أي علامة أنه تذكّر أنه غاب.
        
        وقبل أن أنام، كتبت في دفتري:
        
        "أسوأ ما في الحب غير المتوازن،
        أن تغيب أنتَ يومًا…
        ويغيب قلبي أنا لأسبوع."
        
        …
        
        في صباح اليوم التالي،
        دخلت المكتب بتردد خفيف،
        ثم نظرت بسرعة ناحية مكتبه…
        
        وكان هناك.
        جالس، يضع سماعاته، يكتب على الحاسوب،
        كأن شيئًا لم يكن.
        
        …
        
        لم يقل شيئًا.
        ولا أنا.
        
        لكنه رفع عينيه والتقت نظراتنا لحظة…
        ثم أعاد تركيزه على الشاشة.
        
        كأن تلك النظرة كانت كافية ليقول:
        
        "أنا هنا… فقط، لا تسألي."
        
        لكنني كنت على حافة السؤال.
        وعلى حافة الانكسار.
        الفصل السادس: "صمت لا يُحتمل"
        
        عاد آدم في اليوم التالي، كأنه لم يغب أبدًا.
        نفس المشي الواثق.
        نفس الكتف الذي لا ينحني،
        ونفس النظرة التي لا تقول شيئًا… لكنها لا تمرّ مرورًا عاديًا أبدًا.
        
        كان يجلس على مكتبه، يكتب، يصمت، يراقب كل شيء دون أن يبدو كذلك.
        
        وأنا؟
        كنت أراقب نفسي… وهي تنكسر ببطء.
        
        …
        
        حاولت التركيز.
        وضعت سماعاتي، ملأت الشاشة بكلمات لا أقرأها.
        لكني كنت أسمع ضحكته، حتى من خلف الموسيقى.
        صوته الذي لا يرتفع أبدًا… بدا اليوم أكثر حضورًا.
        
        وكأنّه تعمّد أن يعلو قليلًا،
        أن يُظهر وجوده،
        لكن دون أن يوجّه لي حرفًا واحدًا.
        
        …
        
        في منتصف اليوم، مرّ من أمام مكتبي،
        وقف فجأة، وتبادل نكتة مع أحد الزملاء.
        ضحك بصوت أعلى من المعتاد،
        ثم مال بجسده قليلًا، وضع يده على الطاولة المجاورة،
        وبقي هناك… لثوانٍ كثيرة.
        
        كان موقعه يسمح له برؤية وجهي من طرفه،
        وكنت أعلم… أنه يفعل ذلك ليراني.
        
        لا ليتحدث.
        ولا ليُبادر.
        بل فقط… ليستفز حضوري الصامت.
        
        …
        
        بعدها بقليل، دخلت سهى وجلست بقربي.
        لاحظتني وأنا أحاول أن أبدو مشغولة، لكنها تعرفني.
        نظرت نحوي وقالت بصوت خافت، فصيح كعادتها:
        
        — "إنه يتعمّد الوقوف أمامك."
        رفعت نظري، فسألتها بصوت مرهق:
        
        — "هل يبدو الأمر واضحًا هكذا؟"
        أجابت:
        
        — "كل من يملك عينًا ثالثة… يراه.
        صمته ليس حياديًا يا ليلى، إنه يُربكك عمدًا،
        يتركك في دائرة تتأرجحين فيها، بين وهم الحضور… وحقيقة الغياب."
        
        …
        
        لم أرد.
        لكنني شعرت أنّها وضعت إصبعها على الجرح.
        
        آدم لا يبتعد،
        ولا يقترب.
        لكنه دائمًا يعرف أين يقف ليُربكني.
        
        …
        
        في فترة ما بعد الظهر،
        وقف مرة أخرى أمام طاولتي.
        هذه المرة لم يضحك، بل تحدّث مع أحد المسؤولين بلغة جدّية.
        لكن صوته كان مرتفعًا بما يكفي لأسمعه.
        كأنّه يريد أن يقول لي:
        "أنا هنا، حتى وإن كنتُ لا أتحدث إليك."
        
        …
        
        في طريقي إلى البيت، لم أُشغّل الموسيقى كما أعتدت.
        كنت بحاجة لسماع صوتي الداخلي فقط.
        
        سألت نفسي:
        "هل هذا يُعتبر اهتمامًا؟"
        "هل الاستفزاز نوع من الحب؟ أم مجرد عبث؟"
        "هل هو يحاول أن يبقيني قريبة… دون أن يعترف بوجودي؟"
        
        …
        
        في المساء، كتبت في مذكرتي:
        
        "أتعلم ما يُتعب فيك يا آدم؟
        أنك لا تمضي… ولا تبقى.
        لا تقترب كفاية… ولا تختفي كليًا.
        تجعلني أقف وحدي… على حافة حضورك."
        
        …
        
        وما يؤلم أكثر…
        أنني لا أعرف هل هو يفعل ذلك لأنه يحبني،
        أم فقط لأنه يحب أن يعرف أنني ما زلتُ هنا.
        الفصل السابع: الخنجر الذي لم يُسحب
        
        تخيّلي أن تمشي في طريقٍ تعرفينه جيدًا…
        كل زاوية فيه تُشبهك،
        كل حجر حافظ صوتك…
        ثم، في لحظة، يُغلق في وجهك دون سبب.
        
        لا لأنكِ أضعتِه،
        بل لأن أحدهم قرّر أن يسير فيه بدلاً عنك.
        
        …
        
        كان يُدعى آدم.
        وكنت أعلم أنني أحبّه، دون رتوش أو تحفظ.
        كنت أحادثه يوميًا عبر الرسائل،
        نناقش أمورًا عابرة، نضحك، نصمت، نُغلق الحديث فجأة… ثم نعود إليه.
        
        كان صامتًا، مترددًا، باردًا أحيانًا…
        لكنه دائم الحضور.
        
        أما هي… فكانت رزان.
        زميلة العمل، تعرف كل شيء.
        كانت ترى الرسائل، ترى وجهي حين أقرأ كلامه،
        ترى قلبي دون أن أقول شيئًا.
        
        ومع ذلك، اقتربت.
        
        …
        
        خلال عطلة قصيرة، كنت أحاول أن أبتعد قليلًا عن كل شيء.
        عن صوت الرسائل، عن الترقّب، عن الغيرة التي لا اسم لها.
        
        ووقتها… وصلتني الجملة التي لم أنسها أبدًا.
        
        زميل في العمل كتب لي:
        
        "آدم أوصل رزان بسيارته أمس. خرجا معًا بعد الدوام، كنتُ هناك."
        
        قرأت الجملة مرة.
        ثم مرة أخرى.
        
        لم أشعر بشيء في البداية…
        كانت الكلمات جامدة، محايدة، لا لون لها.
        
        لكنّ صدري ضاق فجأة.
        كأن الهواء لم يعد يكفي.
        
        …
        
        عدتُ بالذاكرة إلى آخر مرة سألته فيها عن علاقتها به.
        أجبته:
        
        "ألاحظ أنك تتحدث معها كثيرًا."
        فقال:
        "لا تقلقي. حين لا أضع شخصًا في رأسي، فلن يستطيع أحد الوصول إليّ."
        
        وكنتُ أظن… أنني ذلك "الشخص".
        
        لكن تلك الجملة… ذلك الموقف… أزال القناع.
        
        رزان؟
        كانت تعرف أنه يعرف.
        وكان هو يعرف أنني أعرف.
        ومع ذلك… اختار أن يسمح لها بالاقتراب.
        
        …
        
        لم أُواجهه.
        لم أُعاتب.
        لم أرسل أي شيء.
        
        قررت فقط… أن أختفي.
        
        صمتٌ تام.
        لم يكن لديّ طاقة للغضب، ولا للرثاء.
        فقط خيبة، تنمو بصمتٍ بين الضلوع.
        
        ولم يكتب لي.
        لم يسأل، لم يحاول.
        
        وكأنّ ما بيننا… لم يكن أبدًا.
        
        …
        
        مرّ أسبوع كامل.
        
        عدت بعدها للعمل،
        بملامح هادئة كعادتي،
        لكن شيئًا داخليًا لم يكن كما هو.
        
        كنت أراه من بعيد،
        يجلس على مكتبه، يكتب، يتظاهر بالتركيز…
        لكن ملامحه كانت شاردة.
        
        كانت نظرته مختلفة.
        كان يتلفّت كثيرًا،
        وكأن شيئًا يثقل عليه، لا يُقال.
        
        …
        
        في أحد الأيام، لمحته يجلس وحده،
        لا أحد حوله، وجهه متعب، عيناه مطفأتان.
        
        شعرت بشيء يهتز داخلي.
        كل ما كنتُ أود قوله له:
        "لقد اخترتَ غيري، فلا تعُد."
        
        لكن بدلًا من ذلك…
        أمسكت هاتفي، وكتبت له رسالة.
        
        "هل أنت بخير؟ تبدو متعبًا اليوم."
        
        لم أنتظر جوابًا طويلًا.
        بعد دقائق، جاء ردّه:
        
        "أنا بخير… فقط بعض التوتر."
        
        فكتبت له، وأنا لا أصدّق ما أفعله:
        
        "كنتُ أنوي ألا أتحدث معك مجددًا…
        لأن الرجل الذي يدور حوله الكثير من الفتيات… لا يلزمني."
        
        وصمتُّ.
        
        …
        
        بعد لحظات، ردّ بكلماته القليلة التي يعرف كيف يختارها جيدًا:
        
        "لا يجب أن تتخلي عن شيءٍ تريدينه."
        
        …
        
        قرأت الجملة مرارًا.
        لم تكن اعتذارًا.
        ولا وعدًا.
        
        لكنها كانت كافية لتربكني…
        كافية لتعيدني.
        
        …
        
        في المساء، كتبت في دفتري:
        
        "أنا لا أحتاجك أن تعدني بشيء.
        فقط… أن تختارني،
        دون أن تجعلني أشعر أنني خيارك الثاني."
        
        …
        
        وفي اليوم التالي…
        عدنا نتحدّث، كأن شيئًا لم يحدث.
        كأنني لم أنكسر.
        وكأنني… لم أعد من خيبة.
        الفصل التاسع: في أول الطريق
        
        ⸻
        
        كنت أعلم أن عيد ميلاده يقترب.
        ولم يكن الأمر سهلًا عليّ.
        
        آدم لا يحب الاحتفالات، ولا المفاجآت،
        وربما لا يرى في يوم ميلاده شيئًا يستحق الوقوف عنده…
        لكن أنا، كنت أراه يومًا كبيرًا.
        
        ليس لأنه يومه فقط، بل لأنه الفرصة الوحيدة التي أملكها لأقول له شيئًا… دون أن أتكلّم كثيرًا.
        
        …
        
        قبلها بأيام، رحت أبحث عن هدية.
        لم يكن الأمر سهلًا، فهو لا يُظهر ما يحب، ولا يعطي إشارات.
        لكني، عندما رأيت ذاك السوار، شعرت بشيء.
        بساطته، لونه، تصميمه، كل شيء فيه يشبهه.
        
        اشتريته دون تردد، وكأني أخيرًا وجدت طريقة أقول له بها:
        
        "أنا أراك."
        
        …
        
        عند منتصف الليل، عندما دخل يوم ميلاده رسميًا،
        أرسلت له رسالة هادئة، لا تشبه رسائل التهنئة المعتادة.
        
        كتبت فقط:
        
        "عيد سعيد…"
        ثم أضفت جملة بلغة لا يفهمها،
        كلمات بسيطة، لكنها تحمل أكثر مما بدا فيها:
        
        "أحب وجودك في حياتي، أكثر مما أستطيع قوله."
        
        لم أنتظر ردًا،
        ولم أره في تلك الليلة متصلاً.
        
        لكن قلبي ظل مفتوحًا طوال الليل،
        كأنّه ينتظر شيئًا لن يأتي.
        
        …
        
        في الصباح، كتب لي:
        
        — "وصلت رسالتك.
        قرأت الجملة ولم أفهمها… لكن سأترجمها يومًا ما."
        
        ابتسمت.
        كنت أعرف أنه لن يسأل مباشرة،
        وأنه لن يرد بكلمة "شكراً" كما يفعل الجميع.
        
        هو فقط… يترك الأمور تمر، لكنه لا ينساها.
        
        …
        
        كتبت له بعدها:
        
        — "متى نلتقي؟ لدي شيء صغير لك."
        
        ردّ دون تردد:
        
        — "في أي وقت تريدين."
        
        ترددت.
        ثم قررت أن أجعل من اليوم لحظة كاملة.
        
        قلت له:
        
        — "فلنقضِ اليوم معًا… يوم ميلادك، كما أتمناه أنا."
        
        لم يكن جوابه رافضًا…
        لكنه أخبرني أن المديرة لم توافق على خروجه من العمل.
        
        أرسل لي بعدها:
        
        — "خطتك لم تنجح."
        فكتبت له:
        
        — "لا بأس… عندما تنتهي من العمل، تعال إليّ، وسأعطيك هديتك."
        
        قال:
        
        — "حسنًا."
        
        …
        
        كل شيء فيّ كان يتحرّك.
        لم أكن فقط أنتظر نهاية الدوام،
        بل كنت أهيّئ قلبي للحظة قد تكون عادية بالنسبة له… لكنها بالنسبة لي، بداية شيء جديد.
        
        …
        
        عند المساء، اتصل بي.
        أخبرني أنه أنهى عمله، وسيمرّ.
        
        قلبي كان يخفق كأنها أول مرة أراه،
        رغم أننا تحدثنا مئات المرات من قبل.
        
        لكن هذه اللحظة… كانت مختلفة.
        
        …
        
        خرجت من البيت بخطوات بطيئة.
        رأيته من بعيد ينتظرني في السيارة.
        كان الجو صامتًا،
        لكن عينيه حين التقتا بعيني، قالت الكثير.
        
        ركبت السيارة.
        كانت هذه أول مرة أجلس فيها إلى جانبه،
        قريبة… لكنني لا أعرف كيف أبدو له.
        
        لم أمدّ له الهدية مباشرة.
        تركتها بجانبي، حتى لا يبدو كل شيء مُجهزًا.
        
        هو من بادر:
        
        — "أين هديتي؟"
        
        ناولته العلبة دون أن أنظر إليه مباشرة.
        نظر إليها، لم يفتحها فورًا.
        وضعها في حضنه وقال:
        
        — "سأفتحها في البيت."
        
        ثم نظر إليّ بابتسامة خفيفة:
        
        — "لكن شكلي أعجبتني."
        
        …
        
        تحدثنا قليلًا.
        لم يكن هناك شيء عميق في الكلمات،
        لكن حضوري بجانبه كان بحد ذاته شيئًا كبيرًا.
        
        كنت أسمع صوت المحرك، أنظر إلى الطريق،
        وأشعر بأن المسافة بيننا قد تقلّصت فجأة.
        
        …
        
        وصل بي إلى حيث أردت.
        قبل أن أنزل، قال لي:
        
        — "شكرًا… ليس على الهدية فقط، بل على أنكِ فكرتِ بي."
        
        قلت له:
        
        — "أنا لا أتوقف عن التفكير."
        
        لم يجب.
        لكنه نظر إليّ نظرة لن أنساها.
        
        نظرة تقول: "أشعر بكِ، ولو لم أقل شيئًا."
        
        …
        
        عدت إلى البيت وقلبي ليس كما كان.
        لم يكن ممتلئًا تمامًا، لكنه لم يكن فارغًا أيضًا.
        
        كنت أملك منه ذكرى:
        رحلة قصيرة، سيارة هادئة، نظرة… وسوار بسيط حملته له في يوم ميلاده.
        
        وكانت تلك بداية الطريق.
        الفصل الحادي عشر: حين قرّر أن يذهب
        
        ⸻
        
        لم يكن في صوته نبرة مختلفة،
        ولا في طريقته تلك الليلة ما يوحي بشيء خارج المألوف.
        كل شيء بدا عاديًا… حتى قالها:
        
        "قدّمت استقالتي."
        
        جملة قصيرة. واضحة. بلا تفسير، بلا مقدمة، بلا تفاصيل.
        
        وقفت لثوانٍ أنظر للهاتف،
        ثم كتبت له بسرعة، وكأني أحتاج تأكيدًا يُنقذني:
        
        "هل هذا… صحيح؟"
        
        ردّ بهدوء يشبهه:
        
        "نعم. بقي لي شهر فقط."
        
        …
        
        لم أكتب شيئًا بعدها فورًا.
        بقيت الكلمات تختنق في صدري.
        لم أعرف ماذا أقول… هل أهنّئه؟ أعاتبه؟ أعبّر عن حزني؟
        أم أعود إلى صمتي، كما أفعل دائمًا؟
        
        لكني لم أستطع تجاهل شعور الغصة الذي ظهر في منتصف صدري.
        شهر فقط؟
        شهر… ثم ماذا؟
        ثم تختفي من المكان، من الممرات، من لحظات الانتظار العابرة، من تلك اللحظات التي لا تعني شيئًا لأحد، لكنها كانت تعني لي كل شيء.
        
        …
        
        تركت هاتفي لدقائق،
        ثم عدت، وكتبت له جملة خرجت من داخلي دون أن أفكّر:
        
        "إذا ذهبت… ستنساني."
        
        كانت الجملة بسيطة. لكنّها تحمل في طياتها رجفة،
        وخوفًا حقيقيًا من أن يكون كل ما بيننا… مجرد وقت مشترك سينتهي بانتهاء العمل.
        
        ردّ بعد لحظة:
        
        "ليس بالضرورة أن أنساك."
        
        كعادته، لا يعطيك وعدًا، ولا ينكر شعورك.
        فقط يتركك في منطقة رمادية… معلّقة بين الاحتمالات.
        
        ثم كتب:
        
        "لا تفعلي أشياء تجعليني أنساك… أو أمحوك."
        
        كأنّه يحمّلني مسؤولية بقائي في ذاكرته،
        أو كأنّه يقول لي بهدوء: "البقاء ليس وعدًا، إنه اختيار… وربما اختبار."
        
        …
        
        تلك الليلة، لم أنم.
        كان في رأسي صدى بعيد للجمل الثلاث:
        الاستقالة. الشهر. النسيان.
        
        وكلما أغمضت عيني،
        كنت أرى صورة المكتب بدونه،
        وأشعر بثقل الغياب، حتى قبل أن يحدث.
        
        رحيله لم يكن نهاية حضور فقط،
        بل بداية لمرحلة لا أعرف كيف أعيشها…
        دونه.
        الفصل الثاني عشر: اليوم الذي خرجتُ فيه قبله
        
        ⸻
        
        لم يكن اليوم عاديًا.
        حتى لو حاولت أن أُقنع نفسي بالعكس،
        حتى لو حاولت أن أمشي في الممرات وكأن لا شيء يحدث،
        كنت أعرف في داخلي… أن هذا هو اليوم الأخير.
        
        اليوم الذي سيغادر فيه آدم، رسميًا،
        ويُغلق الباب خلفه… وربما لا يعود.
        
        …
        
        استيقظت باكرًا، كأن قلبي استيقظ قبلي.
        لم أحتج إلى منبّه، ولا إلى نداء داخلي.
        كان هناك شعور غريب يسكن صدري،
        شعور أقرب للارتباك… أو الحزن الصامت.
        
        ارتديت ملابسي كما أفعل كل يوم.
        لكنني لم أرتب شعري بنفس العناية.
        ولم أضع شيئًا من الزينة.
        لم أرغب أن أبدو بأفضل حال، ولا بأسوأ حال،
        كنت فقط… لا أريد أن أكون هناك.
        
        …
        
        في الطريق إلى العمل، لم أفكّر بشيء.
        كنت أراقب الشوارع من خلف زجاج السيارة وكأنني أودّعها أيضًا.
        كل شيء كان يمشي كالمعتاد… عدا قلبي.
        
        وصلت إلى المكتب.
        سلمت بهدوء، وضعت حقيبتي، وفتحت حاسوبي،
        لكنني لم أعمل شيئًا.
        
        كنت أسمع همسات الزملاء، أراهم يتحركون نحوه،
        واحد يمازحه، وآخر يودّعه، والمديرة تتحدث إليه كما تفعل دائمًا،
        أما أنا… فكنت أراقب من بعيد، من خلف ظهري، من بين الأصوات.
        
        …
        
        لم أتقدّم نحوه.
        لم أفتح معه موضوعًا، ولم أتجرأ أن أقترب.
        
        كنت أعرف أن لحظة الوداع قد تكسر شيئًا فيّ.
        وقد تجعلني أقول ما لا يجب أن يُقال،
        أو أبكي، أو أتعلّق، أو أندم.
        
        فاخترت الهروب.
        
        …
        
        قررت أن أخرج قبل أن يخرج هو.
        جمعت أغراضي، وسرت نحو الباب،
        وقبل أن أغادر، التفتُ بسرعة إلى الخلف…
        
        رأيته في مكانه، يتحدث مع أحدهم، يضحك بخفة،
        كما لو أن الغياب لا يعني له الكثير.
        
        ربما لم يشعر أنني خرجت،
        وربما شعر… لكنه اختار الصمت.
        
        كما نفعل دائمًا.
        
        …
        
        وصلت إلى بيتي مثقلة.
        جلست على طرف السرير، لا أفكر بشيء، ولا أفعل شيئًا.
        كنت فقط أنتظر أن ينتهي هذا اليوم… دون دموع.
        
        لكنه لم ينتهِ.
        
        …
        
        في الليل، بينما كنت أقلب هاتفي بشرود،
        وصلني إشعار.
        
        فتحت الرسالة.
        
        كانت صورة.
        
        آدم…
        يرتدي السوار الذي أهديته له يوم عيد ميلاده.
        يده، معصمه، وتلك اللمسة التي عرفتها جيدًا… كانت في الصورة.
        
        لا تعليق.
        لا كلمة.
        فقط صورة.
        
        لكني فهمت كل شيء.
        
        …
        
        لم يكن بحاجة ليكتب "شكرًا"،
        ولا أن يقول "تذكّرتك"،
        ولا حتى "أردت أن أراكِ قبل أن أرحل".
        
        هو لا يقول هذه الأشياء.
        
        لكنه أرسل الصورة.
        
        وذلك يكفي.
        
        …
        
        بقيت أحدّق فيها طويلًا،
        وتذكرت أنني في يومٍ ما، طلبت منه أن يرسل لي صورة عندما يرتدي السوار.
        قال لي حينها إنه سيصوّره… حين يأتي الوقت.
        
        والوقت أتى.
        تمامًا حين لم أتوقّعه.
        تمامًا حين كنت أظن أن كل شيء قد انتهى.
        
        …
        
        ربما لم أودّعه.
        لكنه ودّعني… بطريقته.
        
        وذلك وحده…
        كان يكفي ليربت على قلبي المتعب.
        الفصل الثالث عشر: نهاية لم تكن صاخبة
        
        ⸻
        
        منذ أن غادر آدم الشركة، بدأت ألاحظ شيئًا يتغيّر…
        لا، لم يكن غيابه وحده ما أوجعني، بل ذلك التحوّل البارد في طريقته، في نبرته، في كل ما كنّا عليه.
        
        كان الحضور ذاته قد اختلف.
        لم يعد يسأل كما اعتاد.
        لم يعد يضحك كما كان.
        لم تعد الرسائل تشبه رسائله.
        
        ردوده صارت قصيرة، مُجفّفة من المشاعر،
        وأحيانًا… لا يرد أصلًا.
        
        …
        
        حاولتُ أن أقنع نفسي أنه مشغول،
        أنه فقط يُعيد ترتيب نفسه بعد الاستقالة،
        أن الحياة الجديدة ربما تأخذه قليلًا… ثم يعُود.
        
        لكن شيئًا في داخلي كان يصرخ:
        "هو لا يعود، بل يبتعد."
        
        …
        
        ثم جاء اسم رزان.
        ذلك الاسم الذي كان ثقيلًا في قلبي حتى قبل أن يحدث شيء.
        كنت أعلم أنها تحاول، رغم معرفتها بنا،
        ورغم علمها أن قلبي متورط معه إلى حدّ الغرق.
        
        كنت أخبر نفسي أن آدم مختلف،
        أنه لا يعطي أحدًا مكانًا لا يستحقه،
        لكن الصمت الذي أحاط بهما كان يكفي ليزلزل يقيني.
        
        …
        
        وصلتُ إلى لحظة… لم أعد أتحمل فيها الغموض.
        
        كتبت له:
        
        "اختر… بيني وبينها."
        
        كنت واضحة، لا أريد التباسًا.
        لا أريد أن أكون فتاة في الظل،
        ولا ظلًّا لفتاة أخرى.
        
        ردّ بعد دقائق:
        
        "أختارك طبعًا."
        
        كلماته كانت مرتبة…
        لكنها لم تُقنعني.
        
        كأنني قرأت كذبه بين الحروف.
        كأن قلبه لم يكن معي وهو يكتبها.
        
        لكنني، كما أفعل دومًا، سامحت اللحظة… واحتضنت الكلمة.
        
        …
        
        ثم، وبعد أيام فقط… وصلني ما لم أكن أريد تصديقه.
        
        ما زال يتحدث إليها.
        
        ورغم أنني لم أبحث، لم أفتش،
        إلا أن الحقيقة ظهرت لي وحدها، قاسية، باردة، جاهزة لتقلب كل شيء في لحظة.
        
        …
        
        أدركت أني كنت الخيار الذي قيل له: "أنتِ."
        لكن لم يكن يومًا الاختيار الحقيقي.
        
        أدركت أنني كنت أنتظر،
        بينما كان يمنح وقته، وكلامه، واهتمامه… لغيري.
        
        …
        
        لم أصرخ.
        لم أعاتب.
        لم أطلب تفسيرًا.
        
        أحيانًا… الخيانة لا تحتاج شرحًا.
        
        فقط كتبت له:
        
        "كل شيء انتهى."
        
        وأرسلت الرسالة.
        
        دون تردد، دون انتظار ردٍّ يلطف الوجع،
        دون أي محاولة أخيرة للتمسّك.
        
        وبعد دقائق، جاء رده:
        
        "كل شيء انتهى."
        
        الجملة نفسها.
        نفس عدد الكلمات.
        نفس البرود.
        نفس الوجع… ولكن بطريقته.
        
        …
        
        حين قرأتها، انفجرت بالبكاء.
        
        بكيت كما لم أفعل من قبل.
        بكيت كأنني كنت أحبس الدموع لأشهر طويلة،
        كأنها لحظة دفعت ثمن كل صمتي، وكل تسامحي، وكل انتظاري.
        
        جلست على الأرض، رأسي بين يديّ، وقلبي في الحضيض.
        كنت أرتجف من الداخل.
        
        كيف يمكن أن تنتهي كل تلك المشاعر برسالة؟
        كيف يمكن أن يرد عليّ بتلك السهولة؟
        كأن ما بيننا لا يساوي شيئًا؟
        
        …
        
        في تلك الليلة، كنت أسترجع كل شيء…
        صوره القليلة، ضحكته في الممر، مزاحه البسيط، السوار، الرسائل، حتى نبرة صوته حين كان يقول "لا" كعادته…
        
        كنت أبحث عن دليل يطمئنني أنني لم أكن أتوهّم كل ما شعرت به.
        لكن حتى الذكريات، تلك التي أحببتها، كانت تؤلمني.
        
        كان كأنه معي في كل مكان…
        إلا في هذه الرسالة.
        
        …
        
        "كل شيء انتهى."
        ربما كانت النهاية بالنسبة له مجرد قرار.
        أما أنا…
        فكانت هدمًا داخليًا، سقوطًا حرًا، ونقطة لا عودة.
        الفصل الرابع عشر: موسم الحنين
        
        ⸻
        
        خمسة عشر يومًا.
        
        خمسة عشر يومًا مرّت وأنا أحاول أن أبدو بخير…
        أن أعيش، أن أكتب، أن أضحك…
        لكن الحقيقة؟
        أن شيئًا داخلي كان يتآكل ببطء.
        
        كنت أستيقظ كل صباح، أحمل هاتفي تلقائيًا،
        أفتح الرسائل… لا شيء.
        أنتظر الإشعار… لا شيء.
        
        لم يعد يكتب، ولم يعد يسأل،
        ولم يعد يدخل حتى ليرى ما أنشره،
        كأن وجودي لم يعد له وجود في عالمه الرقمي ولا الواقعي.
        
        …
        
        كان الغياب قاسيًا،
        لكن الأشد منه… أنني أنا من قررت الانسحاب.
        أنا من كتبت: "كل شيء انتهى."
        لكنني لم أقصد أن ينتهي تمامًا.
        
        كنت أريد منه أن يتمسّك، أن يعترض، أن يُظهر شيئًا من الرفض…
        لكنه، كالعادة، اكتفى بالصمت.
        
        وكأنني لم أكن شيئًا يُفتَقد.
        
        …
        
        مرّ أسبوع. ثم أسبوعان.
        
        وفي اليوم الخامس عشر، بينما كنت أفتح قصتي القصيرة التي نشرتها على صفحتي…
        رأيت اسمه.
        هو… دخل، وشاهد.
        
        اسمه بين المشاهدين أضاء داخلي شرارة صغيرة.
        شيء أشبه برجفة، أو تنهيدة… أو خيبة.
        
        لِم الآن؟
        لِم بعد كل هذا الوقت؟
        
        ربما كان مجرد فضول.
        وربما… اشتاق أيضًا.
        لكنني، كعادتي، قرأت الكثير من القليل.
        
        …
        
        حاولت أن أتماسك،
        أن لا أرسل شيئًا، أن لا أستسلم.
        
        لكني كنت أذوب…
        ولم يكن قلبي قويًا بما يكفي.
        
        …
        
        قبل رأس السنة بيومين،
        حملت هاتفي وكتبت له رسالة قصيرة:
        
        "لا أستطيع أن أبدأ عامًا جديدًا وأنا متخاصمة معك…"
        
        كتبتها، حذفتها، كتبتها من جديد.
        ثم أرسلتها… بصمت، بدعاء، بقلق.
        
        جاء رده بعد قليل:
        
        "أنا لم أُخاصمك… أنتِ من اخترتِ الابتعاد."
        
        كلماته كانت مثل صفعة.
        باردة، صادقة، قاسية.
        
        ربما كان محقًّا.
        لكني كنت أتمنّى أن يقول عكس ذلك.
        
        …
        
        مرت الساعات.
        
        ثم جاءت ليلة رأس السنة.
        
        أعرف أنه لا يقدّم على التهاني عادة،
        ولا يهتم كثيرًا بهذه المناسبات.
        
        لكني كنت أول من كتب له.
        
        "سنة سعيدة آدم… لتكن كل أعوامنا معًا."
        
        أرسلتها بقلبٍ لا يزال يحمل ألمه،
        لكن يحمل في داخله شيئًا من الرجاء.
        
        "لتكن كل أعوامنا معًا"
        قلتُها وأنا لا أعرف هل سيقرأها… هل سيبتسم… هل سيكمل العام معي؟
        
        لكني كتبتها.
        
        بكل ما تبقّى فيّ من أمل.
        
        …
        
        وانتهت الليلة
        الفصل الخامس عشر: ضحكة بعد الغياب
        
        ⸻
        
        لم أكن أنتظر جوابًا.
        
        حين أرسلت له تلك الجملة في ليلة رأس السنة:
        
        "سنة سعيدة آدم… لتكن كل أعوامنا معًا"
        كنت فقط أريد أن أقولها.
        
        لا لشيء،
        بل لأن شيئًا بداخلي لم يحتمل فكرة أن تمر سنة أخرى… وهو ليس فيها.
        
        …
        
        مرت دقائق قليلة،
        ثم رأيت إشعارًا يظهر على الشاشة.
        
        فتحت الرسالة.
        
        كانت منه.
        
        كلمة، كلمتان، ثم ضحكة.
        ضحكته.
        تلك الضحكة التي كنت أحاول إقناع نفسي بأنني لم أفتقدها.
        
        لكنني كذبت على نفسي كثيرًا…
        وها أنا أضعف تمامًا أمامها.
        
        …
        
        بدأ الحديث يتسلل بخفة،
        كما لو أن كل شيء الذي مضى لم يكن سوى استراحة،
        وكأن الوجع الذي ضمّني أسبوعين كاملين،
        والبكاء الذي أنهكني،
        والخذلان الذي طعنني…
        
        نسيته كلّه، فقط… لأن آدم عاد.
        
        …
        
        كان هو نفسه:
        ببروده، بجمله القصيرة، بضحكته الماكرة، بتعليقاته الخفيفة.
        
        لكنه بدا أكثر ليونة.
        أقرب قليلًا.
        وربما… أكثر حضورًا مما كنت أتوقع.
        
        …
        
        أعدنا تلك الليلة تفاصيل كثيرة.
        
        سألني عن أمنيتي في السنة الجديدة،
        سألته عن خططه،
        سألني إن كنت قد نمت بعد الرسالة،
        فقلت: لم أستطع.
        قال لي: ولا أنا.
        وضحكنا.
        
        …
        
        ضحكنا كثيرًا،
        وضمنيًا…
        غفرت له دون أن أقول،
        وسألته دون أن أسأل: "هل ما زلت هنا؟"
        وأجابني دون أن يكتبها: "أنا لم أرحل تمامًا."
        
        …
        
        أغلقتُ الهاتف بعد ساعات طويلة من الحديث.
        ونظرت إلى السقف المظلم في غرفتي.
        ابتسمت دون أن أشعر.
        
        كل شيء تغيّر.
        
        هو نفسه…
        لكنه عاد إليّ.
        
        وأنا؟
        أنا كنت كفيلة بنسيان خذلان أسبوعين… فقط من أجل هذه الليلة.
        
        …
        
        ربما نحن لسنا قصة حب مثالية،
        ولا حكاية مكتملة التفاصيل.
        لكننا، في تلك الليلة، كنا اثنين…
        يتشبث كلٌّ منهما بالآخر، بطريقته.
        
        وهذا وحده… كان يكفيني لأبتسم بعد البكاء.
        الفصل السادس عشر: ليلة فتحت فيها قلبي… وسمعت ما كنت أحتاج إليه
        
        ⸻
        
        لم أكن أتوقع أن يكتب لي ذلك مساءً.
        كانت ليلة هادئة مثل غيرها، كنت أحاول أن أُشغل نفسي بشيء لا يُشبه التفكير…
        لكنني كنت، كعادتي، أعود إلى الرسائل، إليه.
        
        فإذا به يكتب:
        
        "أنا هنا… فقط احكي لي.
        ما الذي يزعجك؟"
        
        أعدت قراءة الجملة مرتين.
        آدم؟ يسألني؟
        هو الذي دائمًا يُخفي، يُؤجّل، يكتفي بنصوص مقتضبة،
        الآن يقول لي: احكي لي.
        
        أجبته بعد تردّد:
        
        "هل أنت متأكد أنك تريد أن تعرف؟
        لأنني لو بدأت… لن أنتهي بسرعة."
        
        قال:
        
        "ابدئي."
        
        …
        
        فبدأت.
        
        حكيت له كل شيء…
        عن تلك الخطبة القديمة،
        عن العلاقة التي دخلتُها وأنا أحاول الهرب من حبٍّ كنت أظنه مستحيلًا،
        عن كيف وجدت نفسي في علاقة خالية من الحب، مليئة بخيبات متتالية.
        
        عن عامين كنت أشعر فيهما أنني أقوى من الرجل الذي يُفترض أن يكون سندًا لي.
        عن والدي، الذي لم يكن يتحدث إليّ حين رفضت الاستمرار،
        وكيف وجدت نفسي أواجه الجميع وحدي.
        
        كان يسمعني…
        بطريقته.
        
        بهدوئه، بسكوته، بذلك النوع من الصمت الذي فيه إنصاتٌ أكثر من الكلام.
        
        ولم يقاطعني.
        
        وحين انتهيت، سألته بهدوء:
        
        "وأنت؟ لماذا لا تفتح قلبك؟
        لماذا لا تخبرني عنك كما أخبرتك أنا عني؟"
        
        فأجاب، ببساطته المعتادة:
        
        "هذه طبيعتي…
        كثيرون حاولوا قبلك، ولم ينجح أحد."
        
        أحسست بخيبة صغيرة…
        لكنني لم أُظهرها.
        
        بل ابتسمت وقلت له:
        
        "سأبقى أحاول… فقط لا تطلب مني الرحيل.
        وأنا لن أتركك أبدًا."
        
        وبعد لحظات من الصمت، أجابني.
        
        بطريقة لم أتوقّعها.
        بكلمات كانت أغلى من كل ما قاله من قبل:
        
        "لن أقول لكِ ارحلي أبدًا."
        
        تلك الجملة…
        لم تكن طويلة، لكنها ضمّتني.
        
        كأنها ذراعاه تلتفّان حول خوفي، وتطمئنان قلبي الصغير المرتجف.
        
        …
        
        من تلك الليلة… بدأت أشياء كثيرة تتغيّر.
        
        بدأتُ أراه أقرب.
        كأن جملته فتحت بابًا كان موصدًا طويلًا.
        
        وبدأت أجمل شهرين في حياتي.
        
        كان كل شيء بسيطًا…
        لكن في بساطته، كان مليئًا بكل ما كنت أبحث عنه من دفء.
        
        …
        
        وفي يومٍ عادي، دون أي مناسبة،
        قدّمت له شيئًا عزيزًا عليّ جدًا:
        
        قطتي.
        
        كنتُ أحبها كثيرًا.
        لكنني شعرت في تلك اللحظة أن منحه إياها كان أصدق شكل من أشكال القرب.
        
        كأنني أقول له دون كلام:
        "ها هي قطعة من عالمي… أضعها بين يديك."
        
        …
        
        كان يحملها بخفة، يُمسّد على ظهرها،
        وكانت ترتاح له بشكل أدهشني.
        
        كنت أراقبه بصمت، وقلبي مليء.
        
        ذلك اليوم…
        شعرت بشيء يشبه العائلة الصغيرة.
        رجل، وفتاة، وقطة.
        
        لا حبًّا كبيرًا صاخبًا، ولا اعترافات، ولا أحلام وردية.
        لكن دفءٌ حقيقي.
        
        شعرت أنني، لأول مرة، لا أحتاج أن أُثبت شيئًا.
        فقط… أعيش.
        
        …
        
        ومع كل ليلة تمر، كنت أكتشف أنني تعلّقت به أكثر.
        
        لا لأنه كان مثاليًا…
        بل لأنه، في تلك الليلة، حين احتجت إلى كلمة،
        قالها:
        
        "لن أقول لكِ ارحلي أبدًا."
        الفصل السابع عشر: وحدي في مواجهة الخوف… والناس
        
        ⸻
        
        كان كل شيء يسير بهدوء.
        
        ضحكات صغيرة، أحاديث مسائية، لمسات من دفء نادر…
        لكنّي كنت أعلم — بطريقتي — أن هذا لا يدوم طويلًا مع آدم.
        
        آدم لا يستقر.
        ليس لأنه لا يريد، بل لأنه لا يعرف كيف.
        
        …
        
        بدأ التغيّر خفيفًا.
        لم يكن واضحًا، لكنه كان مؤلمًا.
        
        رسالة تُؤجَّل، ردّ يتأخر، نبرة أقل حماسة…
        ثم تلك المسافة التي شعرت بها بيني وبينه، دون أن أراها،
        لكنني… كنت أراها بعيني قلبي.
        
        …
        
        كنت أقول لنفسي:
        
        "ربما مشغول.
        ربما يمرّ بشيء ما.
        لا تُفسري الأمور دائمًا بهذا الشكل، يا ليلى."
        
        لكنني كنت أعلم…
        أنه يهرب.
        
        ليس مني، بل من الفكرة.
        من الارتباط.
        من الحبّ الذي بدأ يتسلل إلى قلبه دون أن يعترف به.
        
        …
        
        قالها مرة، كأنها مزحة:
        
        "أخشى أن أقع في حبّ فتاة… ثم أُغيّر أولوياتي."
        
        ضحكتُ حينها،
        لكن بداخلي لم أضحك.
        
        قلت له يومها:
        
        "أليس هذا ما يُفترض أن يحدث حين نحب؟
        أن نغيّر بعض الأشياء لأجل من نحبّهم؟"
        
        هزّ رأسه، ولم يُجب.
        
        …
        
        كان يخاف.
        من الالتزام، من التعلّق، من أن يتنازل يومًا،
        من أن يرى نفسه ضعيفًا أمام شخص ما…
        أمامي.
        
        ولأنّه يخاف… بدأ يبتعد.
        
        …
        
        وأنا؟
        أنا بدأت أتألّم بصمت.
        
        ما عادت المحادثات تشبه ما كانت عليه،
        وما عاد صوته يحمل تلك النبرة التي تسكنني.
        
        كنت أحاول،
        أرسل، أُمازح، أفتح مواضيع جديدة،
        لكن شيئًا ما كان يتراجع كل يوم، وكنت أراه… وأتجاهله.
        
        …
        
        ثم بدأت الجبهة الأخرى في الضغط.
        
        صديقتي المقربة، "ربى"، كانت أكثرهم صدقًا، لكنها كانت واضحة جدًا:
        
        "ليلى… إلى متى ستبقين في هذه الدائرة؟
        ألم تري كم يرهقك؟
        هذا الرجل لا يشبهك، ولا يمنحك ما تستحقين."
        
        كانت تقولها من حرصها، أعلم.
        لكنها كانت تزيد ألمي.
        
        …
        
        أختي، وابنة عمي، أيضًا،
        لم يكن يُعجبهم تمسّكي بعلاقة يرونها من طرف واحد.
        
        "تتعبين لأجله،
        تدافعين عنه،
        ثم تعودين باكية دائمًا."
        
        كانوا يقولون… وأصمت.
        
        …
        
        حتى صديق آدم نفسه، الذي كان في البداية يؤيدنا،
        بدأ يتراجع في موقفه.
        
        لم يطلب مني أن أبتعد،
        لكنه قالها ذات مرة، بهدوء:
        
        "أنتما مختلفان كثيرًا، ليلى…
        لكنه لا يبدو مستعدًا، وأنتِ… تستحقين من يحملك، لا من تُحملينه."
        
        …
        
        كنت وحدي.
        تمامًا.
        
        في جهة واحدة، قلبي الذي يحبّه.
        وفي الجهة الأخرى، الجميع… والواقع… وصمته المتكرّر.
        
        كنت أقاتل، لا لأجلي فقط، بل لأجل أن لا أكون مثل كل من قبلي.
        لأثبت له، ولي، أن الحبّ لا يجب أن يكون مرعبًا دائمًا.
        
        …
        
        لكن آدم؟
        آدم كان يهرب.
        
        وكلما اقتربتُ، زاد خطوته إلى الوراء.
        
        …
        
        وفي الليالي التي أنام فيها باكية،
        كنت أسأل نفسي:
        
        "هل يستحق؟
        هل يُفترض أن أكون بهذا الوضوح،
        بينما هو يعيش في منطقة رمادية؟"
        
        لكنني كنت أستيقظ،
        وأرسل له رسالة صباحية كأن شيئًا لم يحدث.
        
        لأني كنت أخاف، أكثر من أي شيء،
        أن أفقده.
        الفصل الثامن عشر: مكانتي… المعلّقة في الهواء
        
        ⸻
        
        كنت أتحمّل.
        أتظاهر أن الأمور على ما يرام.
        أنّ المسافة التي يكبر ظلّها بيني وبينه مجرد ظرف مؤقت.
        أنّ الفتور، والتجاهل، وقلة الحديث… أشياء عابرة.
        لكني كنت أعرف.
        
        كنت أعرف أن الأمور تتغيّر، وأن آدم… لم يعد كما كان.
        
        …
        
        لم تكن هناك خيانة صريحة.
        ولا كلمات جارحة.
        لكنّ التغيّر وحده، ذلك الانسحاب الصامت،
        كان كافيًا ليُضعف قلبي شيئًا فشيئًا.
        
        كل ما في داخلي كان يصرخ:
        
        "قُل شيئًا… أي شيء.
        طمئني، اشرح، برر، قاتل، احمني من هذا الشك الذي يأكلني كل ليلة."
        
        لكنه لم يقل شيئًا.
        
        …
        
        فقررت أن أُصارحه.
        ليس بالعتاب، ولا بالبكاء،
        بل بسؤال بسيط… واضح… حاسم:
        
        "أخبرني… ما هي مكانتي عندك؟"
        
        صمت قليلًا.
        ثم كتب…
        
        ولم أنسَ الجملة أبدًا:
        
        "لا أعرف ماذا أريد."
        
        …
        
        هكذا، ببساطة.
        لا يقين، لا مشاعر معلنة، لا محاولة طمأنة.
        فقط ضياع… كأنه يقول لي:
        "ابقِ إن شئتِ… أو ارحلي، الأمر سيّان."
        
        …
        
        أغلقت الرسالة.
        وبكيت.
        
        كنت أبحث عن يقين،
        عن وعد صغير،
        عن شيء واحد يُشبه الحبّ الذي كنت أقدّمه له بقلبي كاملًا.
        
        لكنّني لم أجد.
        وجدت رجلاً يخاف من وضوحه، ومن التزامه، ومن نفسه.
        
        …
        
        في تلك الليلة، شعرت وكأنني علّقت قلبي على حافة باب لا يُغلق ولا يُفتح.
        وكأنني أصبحت "شبه شيء" في حياة أحدهم…
        و"كل شيء" في ألمي.
        
        …
        
        لم أُنهِ الحديث.
        لم أودّعه.
        ولم أقل له: "سأنسحب."
        
        كنت فقط أنتظر أن يحدث شيء.
        أن يقول كلمة، أن يُعيدني إلى مكانٍ كنت أظن أنني أحتله في قلبه.
        
        لكنه اكتفى بالضياع.
        وبقيتُ أنا… معلّقة في الهواء.
         
        

        ملكة الفايكنج المنتظرة - رواية تاريخية

        ملكة الفايكنج المنتظرة

        2025, هاني ماري

        تاريخية

        مجانا

        الابنة الصغرى لراغنار لوثبروك والملكة أسلوغ، التي تعيش في كاتيغات بعد غياب والدها لمدة عشر سنوات. على الرغم من كونها أميرة، تشعر "برونهيلدر" بالبعد عن والديها وتاريخهما الأسطوري، وتكافح لتجد مكانها بين إخوتها الذين يختلفون في نظرتهم لوالدهم. تتكشف النبوءات القديمة التي تخصها، وتبرز شجاعتها وقوتها، خاصة عند عودة راغنار المفاجئة، مما يضعها في مواجهة مع ماضي عائلتها ومستقبلها المجهول.

        راغنار لوثبروك

        ملك كاتيغات السابق، ومحارب أسطوري. غائب عن حياة أبنائه لمدة عشر سنوات، وتعود شخصيته المعقدة التي تتأرجح بين المجد والإهمال. عودته تثير مشاعر متباينة بين أبنائه.

        الملكة أسلوغ

        والدة برونهيلدر وزوجة راغنار. تتميز بالحكمة والذكاء، وهي حاكمة قوية لكاتيغات في غياب راغنار. تؤمن بالنبوءات، خاصة تلك المتعلقة بابنتها برونهيلدر.

        برونهيلدر

        الابنة الصغرى لراغنار لوثبروك. تحمل نبوءة قديمة تشير إلى مصير عظيم ومختلف عن عائلتها.
        تم نسخ الرابط
        ملكة الفايكنج المنتظرة

        مملكة كاتيغات، 816 بعد الميلاد في النرويج، إسكندنافيا
        بعد عشر سنوات من اختفاء راغنار لوثبروك
        
        ادعى البعض أنها نصف إله.
        
        من أقدم ذكرياتها، تذكرت من حولها يروون لها قصص عائلتها. كانت والدتها تتحدث غالبًا عن والديها، المحاربين المشهورين الذين يجري دمهم في عروقها. ثم جاءت حكايات والدها، الرجل العبقري الشرير الذي تحول من مزارع بسيط إلى إيرل ثم ملك كاتيغات.
        
        كان شعبها يدعونها "الأميرة" لكنهم همسوا بأنها وُلدت لإله وامرأة بشرية تستحق أن تحمل ذريته. لأنه لا يمكن لإله إلا أن يفعل الأشياء التي فعلها راغنار لوثبروك، ولا يمكن لإله إلا أن يكون له مثل هذه الحكايات المنسوجة باسمه، قصائد أُلفت لتُغنى في قاعات جميع الإيرلات والجالرات في النرويج والدنمارك.
        
        لم تعتقد أنها نصف إله. إخوتها بالكاد اعتبروها ابنة والدهم في المقام الأول. لقد أخبر العجوز راغنار بأنه سيكون لديه العديد من الأبناء، أبناء سيتحدث عنهم الناس طالما أن لديهم ألسنة تتكلم. سيستمتعون بالشهرة. سيرغبون في أن يكونوا أفضل منه. أحب شقيقها سيغورد أن يقول إن هذه النبوءة لم تذكرها، وأكد لها أنها من المرجح أن تكون طفلة عاشق والدتهم، رجل ربما كان أودين نفسه، يُدعى هاربارد عندما زار كاتيغات.
        
        ردت بأن إنكار نسبها غير ممكن. أولاً، جاء هاربارد لرؤيتهم عندما كانت تبلغ من العمر عامين، وهو ما أكده أخواها الأكبر سناً، متذكرين جيدًا ما حدث بالضبط في المرة الأولى التي جاء فيها إلى كاتيغات. لقد كادوا يموتون خلال تلك الزيارة وكانوا شهودًا على السحر الغريب الذي يبدو أن هاربارد يستطيع أن يؤديه لتخفيف آلام الآخرين.
        
        ثانيًا، على الرغم من أن النبوءة لم تذكر ابنة راغنار، إلا أنها كانت تعلم أنه كان لديه ابنة من قبل ولم يكن مستحيلاً أن يكون لديه أخرى. حتى أن والدها أخبرها ذات مرة بفخر أنها تذكره كثيرًا بأختها الكبرى غير الشقيقة، غيدا، التي توفيت قبل حوالي خمس أو ست سنوات من ولادتها، فتاة جميلة تبلغ من العمر حوالي ستة عشر عامًا. كيف يمكن أن تحمل هذا الشبه دون أن يتشاركا الأب؟
        
        وثالثًا - وقد تم تأكيد هذه الحقيقة من قبل إخوتها الثلاثة الأكبر سنًا - كانت هناك ليلة شارك فيها والدها فراشه مع والدتها، الملكة أسلوغ، ومقاتلة الدرع الشهيرة لاغرثا - زوجة راغنار السابقة وأم غيدا وأخيها الأكبر، بيورن - حدث ذلك قبل حوالي تسعة أشهر من ولادتها. كيف، إذن، يمكن لأي رجل آخر أن يكون قد أنجبها؟ في الواقع، الوحيد الذي كان إخوتها يمزحون بأنه يمكن أن يكون والدها حقًا إذا لم يكن راغنار هو لاغرثا، لأنها كانت حاضرة عند حملها. كانت مزحة سخيفة لم يجد سيغورد أي متعة فيها لأنها كانت تعني أنه لا يستطيع مضايقتها بكونها ابنة هاربارد.
        
        "هل أنت قادمة يا أختي؟" نادى سيغورد، يضرب مقبض سيفه على مؤخرة رأسها عندما وجدها جالسة عند الأرصفة، وقدماها في الماء. "أم سترفضين الصيد بجانبنا مرة أخرى؟"
        
        "سآتي،" قالت، مبعدة السيف. رفعت نفسها، نفضت الماء عن قدميها وربطت حذائها، كان إخوتها ينتظرون على خيولهم. ركضت للحاق بهم، قبضت على اللجام وقفزت على ظهر الحصان، أسلحتها تنتظرها. ركلت جانب حصانها، تبعتهم صعودًا إلى الجبال، نحو كوخ كانوا يستخدمونه عندما كانوا يصطادون. هذا بالضبط ما يفعله أنصاف الآلهة. يا لها من مزحة.
        
        كان فخرها الكبير أن تعتقد أنه ما كان يجب أن تولد في المقام الأول. كان حمل والدتها صعبًا مع الأخ الذي جاء قبلها. عذبها إيفار من داخل بطنها وخرج بساقين مشوهتين لدرجة أنه كان معجزة أنهم لم يتركوه ليموت، لأنهم جميعًا كانوا يعلمون أنه لن يمشي كبقية الأطفال.
        
        ضد كل الصعاب، وُلدت. ربتها مجموعة كاملة من الناس الذين أحبوها. كانت الوحيدة من بين إخوتها التي كانت تُشار إليها بلقب والدتها، واللقب الذي اكتسبته الآن بعد أن أصبح والدها ملكًا - الطفلة الوحيدة التي وُلدت له بعد حصوله على تاجه. أميرة، الأميرة المثالية وأصغر أبناء راغنار لوثبروك.
        
        لم تتذكر سيغي، المرأة التي اعتنت بها أكثر من غيرها. امرأة كانت زوجة الإيرل الذي هزمه راغنار ليحصل على مكانه في كاتيغات. امرأة كانت متزوجة أيضًا من عمها رولو. لقد أنقذت إخوتها من الغرق في بحيرة متجمدة عندما جاء هاربارد ليشتت انتباه والدتهم ولم تعد إلى السطح أبدًا. قيل إنها بكت لأيام بعد وفاة سيغي، واشتاقت إليها أكثر من أي شخص آخر.
        
        فكرت والدتها في إعطائها ذلك الاسم، قبل أن تقرر اسمًا آخر. كانت قد سميت ابنيها الأولين من تفضيلها للصوت، أوبه وهفيتسرك. ابنها الثالث، سمته هي ووالدها على نبوءة نطقتها وهي تحمله، قائلة إن ابنها سيكون له صورة الثعبان فافنير في عينه، نفس الثعبان الذي قتله والد أسلوغ. أطلق راغنار عليه اسم سيغورد "عين الثعبان". إيفار، لسوء حظهم جميعًا، سُمي اعتقادًا منه بأنه سيكون أقوى بكثير، على الرغم من أن والدتها كانت تعلم دائمًا أنه سيولد وحشًا.
        
        
        
        

        لابنتها، اختارت اسمًا عنيفًا، على الرغم من أنها فكرت في تسميتها ألفهيلد، تيمنًا بوالدة راغنار. أطلقت عليها اسم برونهيلدر نسبة إلى والدتها، مقاتلة درع مشهورة والأهم من ذلك، فالكيري. أولى ذكريات برونهيلدر عن والدتها تتضمن نبوءة، حيث أخبرت ابنتها أنها ستقوم بأعمال عظيمة لن يحققها إخوتها حتى. ستترك عائلتها وراءها، ستجد نفسها في أرض لن يمسها الفايكنج أبدًا، ستحمل عبئًا كبيرًا وتمسك بين أصابعها نهاية سلالة، وعلى الرغم من أن اسمها لن يكون مشهورًا، إلا أن كلماتها ستكون قوية بما يكفي لتغيير التاريخ. "مينيري،" نادى هفيتسيرك وهما ينزلان من على خيولهما، ويربطانها بعمود خشبي. "ستأخذين الصدارة في صيدنا اليوم." "أخيرًا،" قال أوبه وهي تدحرج عينيها. "دعونا نرى ما إذا كان جرو الدب الصغير يمكنه فعل أي شيء على الإطلاق." "أنا لست صغيرة،" تذمرت. "أنا طويلة مثلك يا أوبه." "ومع ذلك، ما زلت أتذكرك أنت وهفيتسيرك كطفلة صغيرة،" قال، مادًا يده لبعثر شعرها. سحبت سكينها، وضغطتها على حلقه. ابتسم بخبث، متراجعًا ببطء. "طفلة تعلمت القتل." "لم تقتل شيئًا لا يمشي على أربع قوائم بعد،" قال إيفار، بعد أن ساعده سيغورد على النزول من حصانه. زحف على الأرض، نحو الحقل العشبي المؤدي إلى الغابة. "اصمت يا إيفار،" قالت برونهيلدر بحدّة. "قتلي الأول سيكون رجلًا حقيقيًا، وليس طفلًا لم تستطع تحمله في الفناء. يمكنني استخدام جميع الأسلحة التي تستخدمها، فقط أفضل، وسأقتل أشياء لها قدمان." بدا له أن هذا إهانة. "نعم، بالطبع،" قال إيفار بسخرية، "أنتِ دائمًا تنظرين إليّ بازدراء." "ليس عليك، بل إليك. أنت لست رجلًا أقل شأنًا، بل رجل أقرب إلى الأرض." كانت ستركله للتأكيد، لكن أوبه ألقى عليها نظرة تحذيرية فامتنعت. حتى شقيقها الأكبر كان حاضرًا كأب أكثر من والدهم الحقيقي. حسنًا، على الأقل بالنسبة لها وإيفار. أوبه وهفيتسيرك لديهما ذكريات أكثر عنه. "مينيري، مزاجك هذا سيء تقريبًا مثل مزاج إيفار،" قال هفيتسيرك، على الرغم من أنه تراجع عندما وجهت سيفها إليه قبل أن تتجه نحو الكوخ الصغير، المبني تحت التل، وتلقيه جانبًا مع الأسلحة الأخرى التي لن تحتاجها. كان لقبها غبيًا. عندما كانت في الرابعة من عمرها، واجهت صعوبة في ربط الكلمات بشكل صحيح، وفي الحفل الذي تلقى فيه أوبه وهفيتسيرك أساور أذرعهما، حاولت أن تطلب واحدة لنفسها. بالنسبة لهفيتسيرك، بدا الأمر وكأنها قالت "مينيري"، ولم يتوقف عن مناداتها بذلك منذ ذلك الحين. كان هو الوحيد المسموح له باستخدام ذلك الاسم اللعين - لقد جرحت سيغورد بالفعل مرة واحدة لمحاولته ذلك. لماذا قدر لها الآلهة أن تُعرف بمثل هذه الكلمة ذات الصوت الطفولي؟ في الآونة الأخيرة، شعرت أنه لا يوجد الكثير مما يمكنها فعله لتشعر بالارتباط بهذه النبوءة الغريبة لوالدتها أو أي قدر مقدر من قبل آلهة بدا أنها تسخر منها. ظلت عالقة في كاتيغات، ليس لديها من تلعب معه سوى إخوتها. كان لديها أصدقاء في عمرها من قبل - ابنة أخيها سيغي كانت أصغر منها بسنتين، لكنها غرقت في إحدى اللحظات العديدة التي أهملت فيها والدتها أطفالها. لولا أن سيغورد كان يمسك بيد برونهيلدر بإحكام دائمًا، عارفًا ميلها للتجول، ربما غرقت ولم تر أراضٍ جديدة. ثم كانت هناك أنغربودا، ابنة فلوكي وهيلغا، الأشخاص الذين اعتبرتهم والديها الحقيقيين. ماتت أنغربودا بسبب الحمى، لكن فلوكي وهيلغا لم يتوقفا عن رعاية برونهيلدر وإيفار بشكل خاص. كانوا أناسًا طيبين ظلوا مخلصين لراغنار وأنقذوا حياته، على الرغم من العديد من الخلافات. عهدت والدتها إليهما بتعليم أصغر طفليها عن الآلهة، خشية أن يفسدهما والدهما المحب للمسيحية بمعتقداته. في الواقع، المرة الوحيدة التي تذكرت فيها برونهيلدر أن والدها ضرب والدتها كانت عندما أخبرته أسلوغ أن فلوكي لم يرتكب أي خطأ عندما قتل كاهن راغنار المفضل (وصديقه المقرب المفترض) أثيلستان. وهكذا، على الرغم من أنها كانت تُدعى أميرة ونصف إله، إلا أنها لم تجد نفسها مرتبطة كثيرًا بالقصص التي تُروى عن والديها. لم تشعر بالقرب منهم، ولم تشعر بالحب منهم أو بضرورة حبهم، أيضًا. لم تعتقد أنهم كانوا مميزين أكثر من غيرهم من الناس، بل كانوا ببساطة أكثر ذكاءً. لقد أثبتت والدتها ذكاءها عندما التقت والدها لأول مرة، وأظهر راغنار أنه لم يكن رجلًا جائعًا لعرشه - أخبر بيورن ذات مرة أن السلطة خطيرة. إنها تفسد الأفضل وتجذب الأسوأ. لا تُمنح إلا لمن هم مستعدون للتنازل عن أنفسهم لالتقاطها. كيف إذن يمكن أن يكون والدها إلهًا؟ اعتقد الكثيرون أن والدتها أدخلت نفسها في حياة راغنار، وحققت نبوءته ومع ذلك خدعته. لقد نزف مثل أي رجل آخر. ربما كان من سلالة أودين، لكنها شكت في أنه كان مميزًا أكثر من أي فايكنج آخرين. لقد كان ببساطة أكثر استعدادًا لفتح عقله على الاحتمالات. كان هذا هو السبب الوحيد الذي جعلها تعجب بوالدها. لم يحد من نفسه بمنظور الآخرين. لقد بحث عن منظوره الخاص، وأصبح ما هو عليه لأنه أراد أن يرى ما يقدمه العالم أيضًا. الإله لا يربط نفسه بالعالم بهذه الطريقة. حتى والدتها لم تكن امرأة تعبدها. إذا كان هناك من يحتل هذا المكان، فهو لاغرثا، المرأة التي كانت برونهيلدر تطمح أن تكون مثلها، المرأة التي قيل إنها تقاتل مثل فالكيري حقيقية. لكن أسلوغ، حتى وهي والدتها، كانت امرأة بها العديد من العيوب. لم تشعر أبدًا أن إخوتها كانوا مرتبطين بوالدتهم كثيرًا، باستثناء إيفار، الذي كان بحاجة إليها لبقائه على قيد الحياة لسنوات عديدة. "اذهبي أولاً، مينيري،" قال هفيتسيرك، يدفعها بين كتفيها بطرف سيفه. نفضته عنها، سهم مثبت في القوس الذي كانت تحمله، متسللة على أطراف أصابعها إلى الغابة لترى ما سيجدونه. كانت خطواتها أكثر هدوءًا من خطوات إخوتها، الذين كانوا دائمًا صاخبين للغاية مما جعلها تتمنى لو كانت طفلة وحيدة. أشارت إليهم بالتوقف على بعد حوالي خمسين ياردة داخل خط الأشجار. ركعت، وأطلقت السهم مباشرة في عين أرنب. وبينما سقط، ثبتت سهمًا آخر، وأمسكت على حين غرة بأرنب ثانٍ كان يحاول الفرار. "لا توجد خدوش عليهم،" قال أوبه، معجبًا، وهو يتقدم حولها لاستعادة الأرانب. "ستكون كل لحومهم مفيدة لنا." "لم تعد صغيرة بعد الآن،" قال سيغورد، ينقر مؤخرة رقبتها بأصابعه. "إذا فعلت ذلك مرة أخرى، فلن يكون لديك أصابع بعد الآن،" هددت برونهيلدر، مبتعدة عن الطريق ليتقدم إيفار زاحفًا، وكيس مفتوح ليجمع جثث الأرانب. "نعم يا سيغورد،" وافق هفيتسيرك، على الرغم من أن صوته بدا وكأنه يسخر منها. "ألم تتعلم ألا تختبر صبر مقاتلة الدرع؟ يجب أن تخشى غضب المرأة." المرأة التي كانت تلجأ إليها للحصول على المشورة، كل هذه السنوات، كانت هيلغا. الرجل الذي كانت ترغب في التعلم منه هو فلوكي. كان والدها حاضرًا في حياتها بشكل نادر للغاية، وعلى مدى السنوات الإحدى عشرة الماضية، كان غائبًا تمامًا. شعرت بدوامة من الفخر والغضب لذلك. كرهت أنه غادر، كرهت أنه كان يفضل بيورن دائمًا. كرهت أن أوبه وهفيتسيرك قد أخذا إلى باريس بينما كانت هي عالقة مع سيغورد وإيفار تحت رعاية امرأة يمكن أن تنسحب بسهولة مع هاربارد وتنسى أن لديها أطفالًا لترعاهم. من فلوكي، تعلمت عن غارات نورثمبريا، ويسيكس، وباريس. يا إلهي، كم أحبت القصة حيث تظاهر والدها بالموت للتسلل إلى المدينة واستخدم الأميرة جيزيلا - الآن زوجة عمهم، الدوق رولو - للسماح لجيشه بالدخول للغارة. والأكثر من ذلك، أحبت كيف أوصلتهم قوارب فلوكي إلى إنجلترا في المقام الأول. لقد علمها منذ صغرها بناء القوارب، وعبادة آلهتهم. لم تحيد عن ذلك أبدًا. حتى الآن، وهي فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، كانت مستعدة لحمل إيفار البالغ من العمر ستة عشر عامًا على ظهرها إلى كوخ فلوكي حتى يتمكنا من الجلوس لأخذ درس معه، وهي تنحت ألواح الخشب بينما يخبرهم فلوكي عن معنى كونهم فايكنج. ومع ذلك، على الرغم من مرارتها تجاه راغنار وترددها في الإعجاب بأي من القصص عنه كثيرًا، فقد تذكرت اللحظات القليلة التي كانت فيها عائلتها معًا بحب. تذكرت الكنوز التي أحضرها بيورن من باريس. كيف تم القبض على فلوكي ثم أطلقه والدها. بيورن يجلسها على ركبته ليريها هي وأوبه خريطة وجدها في باريس، لأرض أراد استكشافها. أخبرتها والدتها ووالدها أنها ستصبح محاربة عظيمة. إحدى ذكرياتها المبكرة كانت عن وليمة كبيرة حيث أجلسها والدها وإيفار في حجره، ولم يشعرا قط بهذا الطول. "انتظر،" قال سيغورد، مشيرًا إلى حصان آخر وصل إلى الوادي بالأسفل بمجرد عودتهم من الغابة، حقيبتهم مليئة بالأرانب والدراج. "بيورن قادم لينضم إلينا." كانت برونهيلدر سعيدة لأنهم انتهوا، وإلا لم تكن لتُسمح لها بأخذ الصدارة أبدًا. "يا للآلهة، عمره خمسة وثلاثون عامًا، لماذا يصر على مشاهدة كل ما نفعله؟" على الرغم من أنها لم تحب الالتزام بقواعد بيورن - كان يعتقد غالبًا أنه يستطيع أن يخبرها ماذا تفعل كما لو كان والدها - إلا أنها كانت تعجب بأخيها كثيرًا. لقد حملها على كتفيه بينما كان والدها مهووسًا بفتاة عبدة بالكاد تتذكرها. لقد قتل ذات مرة دبًا بيديه العاريتين، وذهب يغامر بمفرده في الثلج، وسبح تحت بحيرة متجمدة ونجا، ثم عاد إلى كاتيغات كرجل حقيقي. الشقيق الذي لم تحبه كثيرًا وللأسف اضطرت إلى تحمله أكثر هو إيفار. كان دائمًا يتحدث بصراحة ولا يهتم بمشاعر من يتأذى. تذكرت أنهم كانوا يلعبون مع مجموعة من الأطفال ذات مرة - نادرًا ما كان إيفار ينضم لأنه لا يستطيع المشي، ونتيجة لذلك، نادرًا ما كانت برونهيلدر تنضم لأنه "ليس عدلاً" أن تلعب بينما هو لا يلعب - وتسببت مشادة في أن يطعن إيفار في سن الخامسة فقط بفأس في رأس صبي صغير آخر. حتى أنه وصف والدتهم ذات مرة بأنها "غبية" لأنها كانت مشتتة بسبب فقدان هاربارد ولم تهزمه في لعبة لوح سخيفة. كانت برونهيلدر ستترك إيفار ليموت بكل سرور لو كانت كبيرة بما يكفي لاتخاذ قرار بشأن ذلك عندما كان طفلًا.

        ومع ذلك، كانت هذه هي العائلة التي اختارتها الآلهة لها. العائلة التي أصبحت عالقة بها الآن، على الرغم من غياب والدها الذي كان له وزن ثقيل. لمدة إحدى عشرة سنة، شاهدت والدتها تحكم كاتيغات. شاهدتها تزدهر بطرق لم تفعلها أبدًا عندما كان راغنار ملكًا. على الرغم من أن والدتها لم تتحدث عن والدها بسوء أبدًا، إلا أن برونهيلدر كانت تتذكر غالبًا من أسلوغ أنهما امرأتان. الأمور ستكون مختلفة دائمًا بالنسبة لهما. سيتحملان دائمًا عبئًا أثقل، وقد نُسجت أقدارهم بعناية أكبر لتناسب عالمًا يسيطر عليه الرجال. أصرت أسلوغ على أنها مقدر لها العظمة، ومع ذلك شعرت برونهيلدر أنها لن تراها أبدًا. عندما وصل بيورن راكبًا، تجمعوا في العشب ونظروا إليه بتوقع، كانت صيدهم جاهزة ومستعدة للطهي. "أخي،" قال أوبه. "هل أتيت لتنضم إلينا؟" "لقد جئت لأخبركم بشيء،" قال بيورن، واضعًا درعه وهو ينزلق من حصانه. "عن ويسكس." رفع هفيتسيرك حاجبيه، وصب لنفسه وسيغورد قرنًا من الجعة من قارورة كانوا قد احتفظوا بها في آخر مرة جاءوا فيها، بينما قامت برونهيلدر بتسوية بالة قش ليجلس عليها إيفار. همهم أوبه، مجهزًا سكاكينه لسلخ الأرانب. "أثق بأن هذا لن يكون شيئًا نحب سماعه." هز بيورن رأسه، جالسًا على المقعد بجانب طاولة أوبه. "لقد جاء رجل ليخبرني خبرين. الأول، أن والدنا يُزعم أنه أنجب ابنًا من الملكة كوينثريث من ميرسيا، صبي يدعى ماغنوس يبلغ من العمر حوالي اثني عشر عامًا الآن. هذا لا يهم في الوقت الحالي. لقد أخبرني أيضًا بشيء عن المستوطنة الزراعية التي تركها والدنا في ويسكس. على ما يبدو، دُمرت تقريبًا بمجرد إبحار راغنار. سُمح لبعض المستوطنين بالفرار لإخبار راغنار كتحذير، ومع ذلك، لم نسمع بهذا أبدًا." عبس أوبه، والبقية يفكرون في الأمر. "هل تعتقد أن والدنا لم يعرف أبدًا؟" "إنه ممكن،" اعترف بيورن، على الرغم من أنه لم يبد متأكدًا وهو يحرك نارًا أشعلتها برونهيلدر بالصوان والصلب. "في تلك الأيام المبكرة، لم يكن من السهل التنقل في البحر." لم يوافق هفيتسيرك، ومرر المزيد من الجعة إلى إيفار وبرونهيلدر. "لقد عرف. كان عليه أن يعرف." "إذا عرف،" قال سيغورد، يتلاعب بأرجل أحد الأرانب، "كان يجب أن يخبر الناس. الجميع فقد أقاربه. آباء وأعمام، أبناء وبنات. كانوا سيطالبون بالانتقام." "لهذا السبب لم يخبرهم،" برر إيفار. "ماذا تقصد؟" تساءل أوبه. "كان مضيعة للوقت. لقد ماتوا! أراد راغنار الإبحار إلى باريس. أراد أن يكون مشهورًا. أليس هذا أهم؟" ظلوا صامتين حتى تمتم بيورن: "يمكنك القول ذلك." "هل يمكنني قول ذلك؟" سأل إيفار متهماً. "ماذا يعني هذا؟" "إليك ما يعنيه،" قاطع هفيتسيرك، "على الأقل بالنسبة لي. والدنا هجرنا. كنا مجرد أطفال وهو هرب. مينيري بالكاد تتذكره. الله وحده يعلم إذا كان لا يزال على قيد الحياة. والآن نسمع أنه احتفظ بهذا السر الكبير عن الجميع. أنه لم يكن صادقًا أو أمينًا." "نعم،" وافقت برونهيلدر. "لقد اختار الشهرة، كما قلت يا إيفار، على حساب كونه معروفًا الآن بمثل هذا السر. هذا لا يجعله رجلًا عظيمًا كما يزعم الجميع. شرفه مبالغ فيه." "هذا يجعلني أشعر بالغثيان،" قال سيغورد. "كيف يمكن لأب ألا يخبر الناس بما حدث؟" "ربما لو أخبرهم،" اقترح بيورن، "لكانوا قد قتلوه." ألقت برونهيلدر يديها في الهواء. "وكان عليه ببساطة أن يدافع عن نفسه. لم يكن خطأه أن رجال ويسكس تراجعوا عن الاتفاق الذي أبرمه. أصبح ملكًا لأنه وقف في وجه الملك هوريك. كان بإمكانه الوقوف في وجه أي شخص حاول إيذاءه لشيء من هذا القبيل." أشار أوبه إليها أن تهدأ. "إذا كان صحيحًا أن والدنا كذب على شعبه، وهجرهم، فآمل ألا يعود أبدًا." "لقد خان اسمنا،" أكد هفيتسيرك. "إذا عاد يومًا، سأقتله." "أنا أيضًا،" قالت برونهيلدر. "إذا كان هذا هو الحال، فلم يكن يستحق أن يكون ملكًا." أومأ سيغورد بالموافقة. تنهد بيورن، وهو يفرك جبهته. بعبوس، ألقى إيفار قرن الجعة على سيغورد، مما أثار ضحكة هفيتسيرك. "تبًا لكم! جميعكم. لم يرتكب أي خطأ أبدًا. إنه والدنا. وهذا كل شيء. جميعكم تبدون كجماعة من المسيحيين." "قد يكون والدنا، لكن لا يزال بإمكاننا قبول أخطائه،" قالت برونهيلدر. كانت ستركله هذه المرة لو لم يسحبها بيورن بنفسه لتجلس بجانبه. "أحب والدنا بقدر ما تحبه أنت،" قال أوبه في محاولة لتهدئة إيفار. مد إيفار ذراعيه. "من قال إني أحبه يا أوبه؟ قلت إني أعجب به. إنه فايكنج. وأنت ضعيف." غاضبًا، انتزع أوبه أحد الأسهم من عين أرنب ووجهه نحو إيفار. "أنا لست ضعيفًا. لا أحد منا ضعيف. لكننا نريد أن نفهم ما فعله والدنا، وماذا كان. كابنه، لا تهمني شهرته. ما الذي استخدم قوته من أجله، هذا ما سيهمني." شخر هفيتسيرك، "بحلول الآن، سيكون هناك الكثير من الغضب في كاتيغات. الآن يعرفون الحقيقة. والدنا خان جيلًا كاملًا من الناس." "لذا إذا عاد يومًا--" بدأ سيغورد. "لا أعتقد أنه سيعود أبدًا،" قال بيورن. "أعتقد أن ما حدث في باريس قد كسره أخيرًا. يمكنكم جميعًا قول ما تشاؤون، لكنه كان بشرًا. بدأ الناس يتحدثون وكأنه إله. لم يكن إلهًا، لقد كان رجلًا!" أومأت برونهيلدر بالموافقة. "رجل لديه العديد من الأحلام والعديد من الإخفاقات. لقد تعلمت ذلك في السنوات التي مرت منذ ذهابه. لو كنت مكانه، لما عدت." صمت للحظة. "على الرغم من كل إخفاقاته، لا يزال أعظم رجل في العالم بالنسبة لي." كانت هذه النقطة قابلة للنقاش بالنسبة لبرونهيلدر، لكنها اختارت أن تظل صامتة بشأن الأمر. وقف بيورن، "يجب أن أذهب لأتحدث مع فلوكي وهيلغا الآن بعد أن علمتم أنتم الخمسة. قريبًا، ستكون سفني جاهزة لاستكشاف البحر الأبيض المتوسط." ودعوه دون حماس كبير. في اللحظة التي انطلق فيها حصانه، تنهدت برونهيلدر، وأخذت أحد الأرانب من أوبه وبدأت في سلخها. "دعونا ننهي الأمر هنا،" تمتمت. "أريد العودة إلى المدينة، لأكون هناك عندما يبدأ الناس في استجواب والدتنا." بينما كانت تزيل الفراء عن الأرنب، تخيلت السكين على جلد والدها. تستجوبه، لماذا كانت المغامرة أهم من عائلته؟ لماذا تخلى عن واجباته تجاه شعبه بينما كان لا يزال يطلق على نفسه ملكًا؟ لماذا احتاج أن يكون رجلًا ترغب في سماع المزيد عنه وفي نفس الوقت لا شيء عنه؟ لماذا تمنت لو لم يكن والدها ومع ذلك شعرت بالامتنان لأنه على الرغم من قلة حب والديها لبعضهما البعض، إلا أنها وُلدت؟ عادوا إلى كاتيغات صامتين، بطونهم ممتلئة ولكن عقولهم لا تزال تدور بأفكار حول راغنار، وقلوبهم فارغة لأب لم يكن جزءًا من حياتهم لفترة طويلة. لاحظوا ضجة على حافة المدينة بعد أن أعطوا خيولهم الطعام والماء. اخترق الإخوة الثلاثة والأخت الحشد، وفتحوا طريقًا لإيفار الذي كان يزحف بين الناس الذين كانوا يحدقون في رجل دخل كاتيغات، ينظر إلى الأمام وكأنه يرى شبحًا. لم تره برونهيلدر منذ أن كانت في الخامسة من عمرها، ومع ذلك عرفت من هو منذ اللحظة التي دخل فيها مجال رؤيتها. بدا أن أوبه وهفيتسيرك يحميان الثلاثة الأصغر سنًا غريزيًا، على الرغم من أنهم شكلوا خطًا على حد سواء، غير مصدقين أنه عاد بينما كان بيورن يقول للتو إنه ربما لن يعود أبدًا. بينما زحف إيفار إلى الصف، وقف الأربعة وسيفهم مسلولة، حدق راغنار في ابنه المشلول، حاملاً سيفه في غمده ويميل رأسه بفضول. "مرحبًا، إيفار،" قال، صوته كالحلم البعيد في ذهن برونهيلدر. "لا يمكن الخلط بينك وبين أي أحد آخر." تومضت عيناه إلى ابنته، وبدا متفاجئًا عندما وجدها واقفة بطول إخوتها، على الرغم من أن والدتها كانت تشاركها هذا الطول الكبير. "ولا أنتِ، فالكيري الصغيرة." تنفس راغنار بعمق، ملاحظًا أن أطفاله لم يبتسموا (على الرغم من أن إيفار وبرونهيلدر لم يستطيعا كبح نظرة الدهشة عند رؤية رجل بالكاد يتذكرانه). "يبدو أن عودتي غير مرحب بها. من الواضح أنكم جميعًا قد اتخذتم قراركم بشأني. لا يمكنني لومكم على ذلك." بدأ يخطو عبر الصف. "إذن. حسنًا، يا فتيان--" بدا يبتسم لبرونهيلدر، "يا فتاة، من سيفعلها إذن؟ من سيقتلني؟ حسنًا، لا أمانع." بدت عيناه مجنونة. "هيا. من فضلكم." توقف أمام الأكبر الثاني. "ماذا عنك يا هفيتسيرك؟ هل تعتقد أنك رجل الآن؟ هاه؟" همس: "أتحداك. خلصني من عذابي. افعلها،" نقر على صدره بمفاصله، "افعلها، افعلها، افعلها--" صرخ فجأة، "افعلها!" قفز الناس خلف هفيتسيرك بعيدًا، وانكمش هفيتسيرك نفسه. "انظروا إلى هؤلاء الناس!" صرخ راغنار، مادًا ذراعيه. "لم يعودوا يدعمونني! انظروا! لماذا يفعلون ذلك؟ أنا قائدكم، ولقد غادرت للتو! أي نوع من القادة يفعل ذلك، هاه؟ أي نوع من الملوك يهجر شعبه؟"

        مشى نحو أبنائه وابنته، "أي نوع من الآباء يهجر أبناءه وبنته؟ إذن، من يريد أن يصبح ملكًا؟" صرخ، ساحبًا سيفه، "أوه، أنتم تعرفون كيف يسير الأمر! إذا أردت أن تصبح ملكًا، فعليك قتلي." عرض سيفه على رجل واقف على حافة الحشد. "خذه. لا؟ أنت - ماذا عنك؟ لا؟ لا؟" رفض الجميع. "أي أحد؟" ضرب سيفه في التراب، "من يريد أن يصبح ملكًا؟" ترك السيف هناك، وتوجه بسرعة نحو ابنه الرابع، "ماذا عنك يا سيغورد؟ هل تريد أن تصبح ملكًا؟" لم يُظهر أي رد فعل، وبدا أن راغنار يكاد يرفع عينيه استهزاءً. التفت إلى ابنه الثاني، "هل تريد أن تصبح ملكًا يا أوبه؟ اقتلني وستصبح ملكًا." وضع يده على كتفه، "الملك أوبه!" لكمه في وجهه، وقاوم أوبه بشدة لئلا يُظهر أي رد فعل. "ماذا تنتظر؟" صفعه، وأوبه صرّ على أسنانه. "هل أنت خائف؟ كن رجلًا." عندما مد يده ليلمس رأس إيفار، حتى دون أن يسأله، وأدار ظهره تمامًا لبرونهيلدر، ضربت هي بحافة سيفها غير الحادة بطن راغنار وسحبت سكينها من حزامها، ووضعتها تحت حلقه. "كن رجلًا، كما تقول؟" تحدّت. "كنت سأجد ذلك تحديًا لو اعتقدت أنك رجل حقيقي. سأبلل نصل سيفي بدم الخائن، لكنه سيكون دمًا على أي حال. دم رجل تركنا وراءه، دم رجل يجرؤ على ضرب أخي بعد ما فعله." التوت شفتا راغنار بابتسامة، ومد ذراعيه، متقبلاً نهايته. كان أوبه هو من وضع يده على كتفها، مشيرًا إليها بالانسحاب. أدار والده ليواجهه، فمد الرجل يده ليمسك جانب وجه أوبه. ثم، تعانقا. صرّت برونهيلدر على أسنانها، وأعادت سكينها وسيفها إلى غمدهما. لم تشك في كلمات والدتها، التي زعمت أنها ستترك عائلتها يومًا ما. كان هفيتسيرك وسيغورد متأكدين تمامًا من أنهما سيقتلان راغنار بسعادة، ومع ذلك لم تجرؤ إلا هي على التحرك ضده. فقط هي من أثبتت أنها فايكنجية. عرفت حينها أن أسلوغ كانت على حق. مسارها سيكون مختلفًا، بصمتها ستُصنع. هذا لم يكن حيث ينتظر مكانها. لا، هذا لم يكتشف بعد. تساءلت برونهيلدر إذا كان والدها سيكشف لها ذلك.

        Pages

        authorX

        مؤلفون تلقائي

        نظام شراء