موصى به لك

الأقسام

الأفضل شهريًا

    الأعلى تقييمًا

      ما بين خطوط الصمت - روايه رومانسيه

      ما بين خطوط الصمت

      2025, Aya Haddad

      رومانسية

      مجانا

      قصة حب واقعية كُتبت على أنقاض الانتظار إلى أولئك الذين أحبّوا بصدق… ثم خذلهم الوقت، والظروف، والنهايات الغامضة. إلى من اختاروا الرحيل، رغم أن كل تفاصيلهم ما زالت عالقة… وإلى أولئك الذين بقوا، حتى بعد أن أُغلق الباب في وجوههم مرات ومرات… هذه الحكاية لكم. حكاية لم تنتهِ، بل تجمّدت في لحظة ودٍّ لم تُقال، وفي عناقٍ لم يحدث، وفي رسالة لم تُرسَل

      ليلى

      ....

      آدم

      ....
      تم نسخ الرابط
      ما بين خطوط الصمت

      لم أكن أبحث عن الحب…
      ولم يكن هو يبحث عني.
      لكننا التقينا، في صدفة لم تكن بريئة، وفي وقتٍ كان كلانا فيه مكسورًا بطريقة ما.
      
      رواية "ليلى وآدم" ليست مجرد قصة عن عاشقين.
      إنها حكاية عن التناقض، عن الخوف من القرب، والرغبة فيه في آنٍ واحد.
      عن من يهرب من الحب لأنه يخشى أن يضعف، ومن تطارده الذاكرة حتى بعد أن ودّع.
      
      ليلى… كانت تلك الفتاة التي أصرّت أن تُحبّه، رغم أنه لم يطلب منها ذلك.
      وآدم… كان ذلك الرجل الذي لم يعرف كيف يُحب، لكنه لم يستطع أن يمنعها من البقاء.
      
      هذه ليست نهاية سعيدة، لكنها ليست نهاية حزينة أيضًا.
      إنها مجرد حكاية… من الحياة.
      الفصل الأول: "أول خيط"
      
      كنت أعبر مرحلة ساكنة من عمري، لا فرح ولا حزن… فقط هدوء يشبه الاستسلام.
      كل شيء حولي كان منتظمًا حدّ الاختناق: العمل، البيت، العلاقات السطحية، وخطبة باهتة لرجل لم أستطع يومًا أن أحبه، رغم كل محاولاتي.
      
      كان داخلي فراغ صغير لا يُرى، لكنه كان يؤلمني كل ليلة.
      
      ثم… دخل آدم.
      
      لم يكن دخوله يشبه دخول الأبطال، ولا يشبه خيالي القديم عن الرجل الذي يهز كياني.
      بل دخل بهدوء موظف جديد في شركة، عادي جدًا، لا يلفت الأنظار، ولا يحب أن تُسلط عليه الأضواء.
      
      في اليوم الأول، لم ألتفت له… لم يكن "ستايلِي".
      متوسط الطول، أبيض البشرة، يضع نظارات طبية، يلبس دائمًا بطريقة مرتبة أكثر من اللازم.
      لكنه بدا مختلفًا دون أن أفهم السبب.
      
      بدا كمن يحمل سره في جيبه الخلفي، ويمشي في الحياة بخطوات محسوبة.
      لم يكن يضحك كثيرًا، ولم يكن يحاول أن يتقرب من أحد.
      
      بدأت قصتنا برسائل.
      لا أعرف من كتب أول رسالة، لكنّي أعرف أن أول خيط رُمي نحوي كان منه.
      كان كلامه بسيطًا، لا يحمل مشاعر مباشرة، لكنه مكتوب بطريقة تشبهه: هادئة، عميقة، وغامضة.
      
      كنت مخطوبة وقتها، أعاني داخليًا، وأُقنع الجميع أني بخير.
      لكني لم أكن بخير.
      وآدم… آدم كان يشبه الهدوء الذي كنت أبحث عنه، دون أن أعرف.
      
      كنت أقول لنفسي إن الأمر لا يتعدى بعض رسائل عابرة.
      لكن في كل مرة كان يكتب لي، كنت أقترب أكثر دون أن أشعر…
      لم تكن رسائل حب.
      لم تكن حتى رسائل اهتمام واضح.
      لكنها كانت تشبه شخصه تمامًا: قليلة، موزونة، لا تقول الكثير… لكنها توصل أكثر مما تكتبه.
      كنت أعيد قراءتها في الليل، أبحث عن جملة لم أنتبه لها، أو نقطة نهاية تغيّر المعنى.
      
      أحيانًا كنت أضحك… ليس لأن شيئًا مضحكًا قيل، بل لأن قلبي كان سعيدًا فقط لأنه كتب لي.
      كان يكفي أن أرى اسمه على هاتفي، حتى أستعيد نفسي لبضع دقائق.
      
      مع الوقت، بدأت أبحث عن إشاراته… أنتظر رسائله.
      كنت أغضب لأنه لا يُبادر، ولا يقول شيئًا واضحًا.
      لكني لم أبتعد.
      
      كنت أعرف أن هناك شيئًا فيه لا يُقال.
      وأنا من طبعي أحب الأشياء الغامضة، حتى لو أحرقتني.
      
      ربما كنت أتوهم، وربما كنت أرى فيه شيئًا لا يراه غيري…
      لكني كنت متأكدة من شيء واحد:
      أول خيط بيني وبينه قد بدأ.
      الفصل الثاني: "صوت غير مسموع"
      
      كنت أهرب من التفكير كلما اقترب اسمه من رأسي،
      لكن اسمه كان خفيفًا، يتسلل كهمسة بين أفكاري، يدخل دون استئذان…
      كأنه فكرة لا أعرف كيف أتجاهلها، ولا أملك الشجاعة لمواجهتها.
      
      لم يكن هناك شيء واضح…
      لا بداية، لا وعد، لا حتى لحظة واحدة أقول عنها: "من هنا بدأت قصتي."
      لكن رغم ذلك، كنت أشعر.
      كنت أشعر به في كل لحظة صمت، في نظرة سريعة، في رسائل قصيرة لا تقول الكثير لكنها تفتح في داخلي كل الأبواب.
      
      …
      
      كلما كتبت له، قلت لنفسي: "لا بأس… مجرد مجاملة، لا شيء أكثر."
      ثم أقضي الليل وأنا أعيد قراءة الرد، كلمة بكلمة، أحاول استخراج معنى خلف السطر.
      
      أحيانًا كنت ألوم نفسي:
      "كيف تسمحين لنفسك أن تفرح بجملة لا تحمل وعدًا؟"
      لكني كنت أفرح رغمًا عنّي، وأشتاق أكثر رغم كل الحذر الذي أبنيه حولي.
      
      …
      
      في العمل، كل شيء يبدو طبيعيًا جدًا… إلى حدّ السخف.
      آدم يدخل المكتب بهدوء، يعمل بتركيز، يرد على الأسئلة بجمل قصيرة، ثم ينسحب بنفس الطريقة التي دخل بها.
      ولا أحد يلاحظ شيئًا…
      إلا أنا.
      وأحيانًا، سهى.
      
      زميلتي الوحيدة التي تشعر بما لا أقوله.
      لم نتحدث كثيرًا، لكنها كانت ترى التفاصيل الصغيرة…
      نظري كلما دخل الغرفة، أو شرودي كلما وردت منه رسالة.
      
      في أحد الأيام، كنّا في استراحة قصيرة، جلستْ بجانبي وسألتني:
      — "تحبين الهدوء، صح؟"
      قلت بابتسامة باهتة:
      — "أحيانًا… وأحيانًا أكرهه."
      ردّت وهي ترفع كوب القهوة:
      — "الهدوء لما يكون حقيقي، يريح. لكن لما يكون بينك وبين شخص، يُتعب."
      ثم نظرت إليّ وقالت:
      — "هو هادئ… لكنك لستِ مرتاحة."
      
      …
      
      تلك الليلة، حملت كلامها معي مثل ورقة مطوية داخل صدري.
      كنت أتقلب في سريري، قلبي يريد أن يصدّق، وعقلي لا يرى شيئًا حقيقيًا.
      هل أنا فعلاً أتخيل؟
      هل كل ما يحدث مجرد صدى في داخلي، لا يسمعه سواي؟
      أم أن هناك إشارات لا أراها بوضوح، لكنه يرسلها بخجل؟
      
      …
      
      رسائله لم تكن كثيرة، ولم تكن تحمل أي وعود.
      لكنه لم يتوقف عن الرد.
      لا يفتح مواضيع طويلة، ولا يسأل كثيرًا، لكنه هناك… دائمًا هناك.
      وكأن وجوده بحد ذاته، نوع من الاهتمام الهادئ، المختلف… الخطير.
      
      أحيانًا أكتب له جملة، ثم أمسحها.
      أكتب "كيف كان يومك؟"، ثم أغيّرها إلى "مساء الخير."
      كأنني أخاف أن أكشف ما بداخلي… أو أن أخسره دون أن أملكه.
      
      …
      
      بعد يومين، رأيته يمرّ بقربي في المكتب.
      كنت أتناول قهوتي، أنظر من النافذة، لكنه مرّ بهدوء تام.
      لم يلتفت، لم يتكلم، لكن قلبي ارتبك كما لو أنه صاح باسمي.
      
      تلك التفاصيل الصغيرة هي التي تُربكني…
      كيف يمكن لنظرة، لحركة، لكلمة واحدة… أن تغيّر حالتي الداخلية تمامًا؟
      كيف لرجل صامت، لا يطلب شيئًا، أن يأخذ هذا الحيّز مني؟
      
      …
      
      في المساء، اتصلت بي ربى — صديقتي الأقرب، صوتي الآخر خارج كل هذا الصمت.
      كنت أحتاجها كثيرًا، وأخاف منها كثيرًا… لأنها تقرأني كصفحة مفتوحة.
      
      قالت لي:
      
      — "أين وصلت قصتك؟"
      قلت دون تفكير:
      — "لا قصة، فقط أنا… وبعض الشعور."
      ضحكت وقالت:
      
      — "ليلى، أنتِ لا تعرفين كيف تشعرين قليلاً… أنتِ إمّا تحبين، أو تهربين."
      سكتُّ.
      ربى تعرف أني أهرب منذ سنوات، من شعور، ومن ذكرى، ومن وجع سابق لا يتركني.
      
      …
      
      قالت بصوتها الهادئ:
      
      — "أنا لا أُحب أن أراكِ في مكان رمادي. إما أن يكون معك… أو لا يكون."
      قلت:
      — "وأنا أخاف أن أخسره لو حاولت أن أعرف."
      ردّت بهدوء مؤلم:
      
      — "ربما تخسرينه وأنتِ صامتة أيضاً."
      
      …
      
      أغلقت الهاتف وجلست في الظلمة.
      لا موسيقى، لا ضوء، لا شيء… فقط قلبي ومئة سؤال لا جواب له.
      هل أنا أحب؟
      هل هو يشعر؟
      هل هذا طريق، أم متاهة؟
      
      لكن رغم كل الشكوك… كنت أجد نفسي أكتب له مجددًا.
      أكتب دون أن أرسل… أكتب كي لا أنفجر.
      
      …
      
      في الليل، كتبت في مذكرتي:
      
      *"أشعر به رغم بعده،
      وأسمعه رغم صمته،
      وأفهمه رغم أنه لا يفسّر شيئًا…
      
      أنا فقط… أسمع صوته من بين كل هذا الصمت."*
      الفصل الثالث: **"خطوة غير متوقعة")
      
      لم أكن أنتظر منه شيئًا…
      ولا حتى نصف جملة، ولا حتى سؤالًا عابرًا.
      آدم لم يكن من ذلك النوع الذي يُظهر اهتمامه كما يتوقعه الآخرون.
      هو لا يسأل إن كنتِ أكلتِ، ولا يكتب "طمنيني"، ولا يظهر قلقًا صريحًا حين أغيب.
      لكنه… يمرر إشاراته بطرق لا تُدرّس في كتب العلاقات.
      بطريقته هو.
      الصامتة، المحسوبة، المشوشة.
      
      …
      
      كان ذلك الصباح مملاً ككل الأيام.
      لكن الملل يتغير حين تكونين في طور التعلّق.
      حتى الهواء الذي يمرّ قربه، يصبح مختلفًا.
      
      دخل آدم متأخرًا بخمس دقائق،
      كان أول تفصيل لاحظته.
      هو نادر التأخير… يعني أن هناك خللًا بسيطًا في نظامه المعتاد.
      لكنه لم يُظهر أي توتر.
      وضع حقيبته، جلس، فتح الحاسوب، ثم نهض بعد قليل واتجه ناحية مكتب المديرة.
      
      هناك… وقف أمامي.
      
      لكنه لم يكلّمني.
      لم ينظر.
      كان يتحدث معها، بصوت أعلى من المعتاد، يضحك بخفة، يتمايل قليلًا،
      كأنه يمثل مشهدًا أمامي فقط.
      
      أشعر به وهو يختار نبرة صوته…
      كيف يتكئ على الكرسي بطريقة غير عشوائية،
      وكيف يلتفت كل بضع ثوانٍ، لا إلي، بل باتجاهي العام.
      
      هل كان هذا حقيقيًا؟
      أم أنني فقط… أتوهم؟
      
      …
      
      سهى لاحظت.
      لم تكلمني مباشرة، لكنها ابتسمت لي ابتسامة مليئة بالمعنى.
      
      بعد الاستراحة، ونحن نرتب أوراقًا عادية، اقتربت مني وهمست:
      
      — "يعجبني كيف يتعمّد أن يكون مرئيًا، دون أن يقول لكِ شيئًا."
      نظرت لها، شعرت بقلبي يرتجف.
      فقالت بنبرة هادئة:
      
      — "ليلى… آدم لا يضحك بهذا الشكل مع المديرة عادة.
      ولا يقف عند مكتبك بهذا التكرار.
      هو يعلم أنكِ تلاحظين… بل يريدك أن تلاحظي."
      
      سألتها بشك:
      
      — "وإن لم يكن يقصد شيئًا؟"
      ردت بابتسامة باهتة:
      
      — "حتى لو لم يقصد حبًا… فهو يقصد إثارة مشاعر معينة. الغيرة؟ التوتر؟ ربما."
      
      …
      
      مرت الساعات، وأنا أفكر فقط:
      "هل أنا هدف غير معلن؟"
      "هل هو يستمتع بإرباكي، أم أن هذه طريقته الوحيدة للقول بأنه يلاحظني؟"
      
      وفي مساء اليوم نفسه، وبينما كنت على هاتفي، قلبت في صور حسابي الشخصي.
      توقفت عند تلك الصورة…
      التي ارتديت فيها قلادتي الجديدة…
      تحمل اسمي.
      
      كانت صورة أحببتها كثيرًا، لأنني شعرت فيها أنني أنا.
      ولأني أظهرت اسمي فيها، بلا خجل، ولا تحفظ.
      
      وبينما كنت أتفقد التعليقات،
      وصلتني رسالة منه.
      
      "صورتك الأخيرة… مقلوبة."
      قرأت الرسالة مرتين.
      ثلاث مرات.
      "مقلوبة؟"
      ماذا يعني؟
      
      أجبته:
      
      "مقلوبة؟"
      
      رد:
      
      "الاسم… لا يُقرأ. القلادة بالمقلوب."
      
      رفعت حاجبي بدهشة.
      أي دقة هذه؟
      كيف انتبه؟
      ومن قال إنه ينظر لهذه الدرجة؟
      
      قلت له بسخرية:
      
      "وأنت تقرأ كثيرًا؟"
      
      ردّ بكلمة واحدة، أربكتني:
      
      "فقط عندما يكون اسمك مكتوبًا."
      
      …
      
      وضعت الهاتف جانبًا.
      ضربات قلبي لم تعد منتظمة.
      هو لا يُظهر إعجابًا مباشرًا، ولا يقول أي جملة قد تفسر على أنها اعتراف…
      لكن لماذا هذه الجملة تحديدًا؟
      لماذا الاسم؟
      لماذا الآن؟
      
      …
      
      في اليوم التالي، عاد ليُكرر المشهد نفسه.
      جاء، وقف أمامي، ضحك مع المديرة، وتجاهلني تمامًا…
      كما لو أنني غير موجودة،
      لكنه… جعلني أحس بوجوده أكثر من أي وقت مضى.
      
      سهى لم تسأل هذه المرة، لكنها ابتسمت من بعيد.
      فأنا من همست لها:
      
      — "يعرف أنني أغار، أليس كذلك؟"
      قالت بثقة:
      
      — "ويحب أن يراكِ تضعفين… لأن هذا نوعه من السيطرة."
      ثم أضافت:
      
      — "هو لا يريدك أن تفهمي تمامًا… ولا أن تهربي تمامًا.
      يريدكِ عالقة… ومربكة… ومشتتة."
      
      …
      
      في المساء، اتصلت بي ربى،
      سألتني عن يومي، فقصصت عليها المشهد كاملاً.
      ضحكت ثم قالت:
      
      — "وهل تتفاجئين؟ آدم لا يقول، لكنه يُشعر.
      وأنتِ… ممن يقرأون الأحاسيس قبل أن تُكتب."
      
      قلت لها:
      
      — "أخاف أن أُخطئ في القراءة."
      أجابتني بصوتها الواثق:
      
      — "لا بأس أن تخطئي، لكن لا تَصمتي إن شعرتِ أن قلبك يتكلم."
      
      …
      
      في تلك الليلة، لم أنم باكرًا.
      كتبت له جملة ولم أرسلها:
      
      "هل كنت تنظر إليّ فعلًا… أم أنني أتخيل؟"
      
      ثم مسحتها.
      وكتبت أخرى:
      
      "كل مرة تمرّ أمامي، تترك في رأسي فوضى لا تليق برجل صامت."
      
      ثم أغلقتها، ونمت.
      
      لكنني أعرف…
      أنني لم أعد كما كنت.
      وأن آدم، بطريقته الخاصة،
      أخذ خطوة غير متوقعة…
      خطوة صغيرة…
      لكنها هزّت كل توازني.
      الفصل الرابع: "حين يبدأ الشك يتكلّم"
      
      ⸻
      
      كنت أحاول أن أُقنع نفسي أنني بخير.
      أن الأمور تحت السيطرة…
      أنني أستطيع الانسحاب متى أردت،
      أنني قوية كفاية لأوقف كل شيء بقرارٍ واحد.
      
      لكنّ قلبي كان يعرف أنني أكذب عليه.
      
      كان يعرف أنني، كل يوم، أستيقظ على انتظار غير معلن…
      انتظار نظرة، كلمة، إشعار…
      أي شيء بسيط يدلّ على أنه يراني فعلًا، كما أراه أنا.
      
      …
      
      آدم لم يتغير.
      ما زال هو… صامت، غامض، لا يقول الكثير، لا يعد بشيء.
      لكن المشكلة أنني تغيرت.
      أصبحت أقرأ صمته كما لو كان رواية طويلة بلا غلاف،
      كل نظرة منه أترجمها،
      كل تجاهل أحلله،
      وكل لحظة عادية تمرّ بيننا… تصبح حدثًا داخليًا عندي.
      
      …
      
      "سهى"، زميلتي التي لا يفوتها شيء، كانت تراقبني بصمت، ثم تقطع الصمت بعبارة مفاجئة.
      
      ذات صباح، بينما كنّا نرتب ملفات قديمة، قالت دون مقدمات:
      
      — "آدم ذكي جدًا… يعطيكِ إشارات صغيرة، ويتركك تفسّرين كل شيء."
      نظرت لها، متعبة من التفكير، وقلت:
      
      — "لكنني تعبت من التفسير… تعبت من انتظار شيء لا يأتي."
      ابتسمت وقالت:
      
      — "لكنكِ لا تتوقفين عن انتظاره، أليس كذلك؟"
      أومأتُ برأسي بصمت.
      
      …
      
      في المساء، التقيت "ربى" في أحد المقاهي وسط المدينة.
      كان مزدحمًا، لكننا اخترنا زاوية هادئة في الداخل، قرب النافذة،
      حيث تمرّ السيارات ببطء، والناس يعبرون، والحياة تبدو وكأنها لا تهتم بمن يتألّم في صمت.
      
      ربى، التي لا أحب أن أكذب أمامها، سألتني مباشرة:
      
      — "هل تحبينه؟"
      أخذت وقتًا في الرد، ثم قلت:
      
      — "لا أعلم إن كنت أحبه… أو فقط أبحث عن حبٍ فيه."
      أجابت بهدوء:
      
      — "هل تريدينه لأنه يشبه ما حلمتِ به؟ أم لأنك تخافين أن تفقدي شعورك نحوه؟"
      قلت بعد صمت:
      
      — "أظنني فقط… تعبت من الفراغ، وأخاف من أن يكون كل ما بيننا وهمًا من طرفي فقط."
      ربى رفعت كوبها وقالت:
      
      — "الفراغ لا يُملأ بأحد صامت يا ليلى. لا تدفني مشاعرك في شخص لا يفتح لك الباب."
      
      …
      
      تلك الليلة، عدت للبيت بعينين متعبتين.
      فتحت هاتفي، قلبت في رسائلنا،
      لم تكن كثيرة، ولا طويلة، لكنها تسرقني كلما عدت إليها.
      
      كتبت له:
      
      "هل كنت تنظر إليّ فعلاً… أم أنني أتخيل؟"
      
      ثم مسحت الجملة،
      وكتبت:
      
      "كل مرة تمرّ أمامي، تترك في رأسي فوضى لا تليق برجل صامت."
      
      ثم مسحتها أيضًا.
      
      أغلقت المحادثة، وأغلقت قلبي مؤقتًا.
      
      …
      
      في الأيام التي تلت، قررت أن أكون أبرد.
      أن أراقب دون أن أبادر.
      أن أبتسم دون أن أكتب.
      أن أبدو بخير، حتى وأنا أشتعل.
      
      لكن آدم… لم يتغيّر.
      ما زال يمرّ بجانبي، يتحدث مع المديرة بصوت مرتفع، يضحك كما لو أنه في مشهد مسرحي أمامي.
      لا يكلّمني، لا يختفي، لا يتقدم، لا يتراجع.
      
      وهذا… كان يُربكني أكثر من الرفض.
      
      …
      
      كنت أبحث عن أي وضوح، عن كلمة بسيطة:
      "أنا أراكِ"
      أو حتى:
      "توقفي عن التوهم"
      
      لكنّ آدم لا يعطيك إجابة.
      هو فقط يُبقيكِ في منتصف الطريق،
      تتقدمين خطوة، وتتراجعين اثنتين…
      ولا تعرفين إن كنتِ تمشين نحوه، أو تدورين حول نفسك.
      
      …
      
      في إحدى الليالي، كتبت في مفكرتي:
      
      "كل ما أحتاجه… أن أسمع منه شيئًا ينهي هذا الصمت.
      ولو كانت النهاية…
      فأنا أفضل جرحًا واضحًا، على خيبة طويلة بلا صوت."
      
      ثم أغلقتها، وأطفأت النور، ونمت.
      
      لكنني نمت وأنا أشعر…
      أنني بدأت أضع رجلي الأولى على حافة الانسحاب.
      ليس لأنني لا أحبه،
      بل لأنني بدأت أشك أنني أحبّ… من لا يشعر بي.
      الفصل الخامس: "نقطة الانكسار"
      
      (النسخة الجديدة – أطول، أعمق، وفيها أحداث أكثر)
      
      ⸻
      
      يقال إن من يحب، لا يحتاج إلى علامات واضحة،
      مجرد غيابه… يفضح مكانه.
      
      وفي صباح ذلك اليوم،
      شعرت أن شيئًا ناقصًا منذ أن دخلت المكتب.
      
      الكرسي المقابل لم يكن مأهولًا،
      الصمت أكبر من المعتاد،
      ووجه آدم… غائب.
      
      تفقدت المكان بسرعة،
      كأني أحاول التأكد أنه فقط تأخر.
      لكن الساعة تجاوزت التاسعة.
      ثم العاشرة.
      ولم يظهر.
      
      …
      
      حاولت أن أبدو مشغولة،
      أن لا أفكر، أن لا أراقب الباب في كل مرة يُفتح،
      لكنني كنت أفعل بالضبط كل ما لا أريد فعله.
      
      كل زميل يدخل… يُربكني.
      كل ظل يمرّ… أتوهمه هو.
      
      …
      
      سألت سهى، بنبرة لا مبالية:
      — "آدم ما جا حتى الآن؟"
      رفعت حاجبيها:
      — "لا… ما شفتو، يمكن عطلة ولا مريض؟ ما قالك؟"
      
      هززت رأسي بابتسامة قصيرة:
      — "ما عندي فكرة."
      
      وكأننا لا نعرف بعض.
      وكأن كل تلك الإشارات السابقة كانت مجرد أوهام.
      هو يغيب… ولا يُخبرني.
      ولا حتى برسالة واحدة.
      
      …
      
      طوال النهار، كنت أقاوم رغبة عارمة في مراسلته.
      أن أكتب شيئًا بسيطًا:
      
      "كل شيء بخير؟"
      أو حتى كلمة واحدة:
      "اليوم؟"
      
      لكنني لم أفعل.
      لا لأنني لا أشتاق، بل لأنني خفت من الردّ.
      خفت أن يقول:
      
      "آه، نسيت أخبرك."
      خفت أن يضعني في مكاني، البعيد، الباهت، غير المهم.
      
      …
      
      خلال الاستراحة، جلست وحدي.
      لم أذهب مع سهى،
      ولم أتظاهر بالقوة.
      كنت متعبة.
      لكن الأهم:
      كنت خائفة.
      
      خائفة من أن يكون قد انسحب بصمته،
      كما جاء… يختفي.
      دون مقدمات.
      ودون حتى فرصة لأقول له إنني… تعبت.
      
      …
      
      في المساء، خرجت مع ربى.
      كنا نسير في الشارع الذي تعودنا عليه، بين الواجهات الصغيرة والدكاكين القديمة.
      سألتني وهي تلتفت لي:
      
      — "كنتِ غائبة اليوم… بالك مش هنا، وش صاير؟"
      أجبتها دون تردد:
      
      — "ما جا آدم."
      ضحكت بخفة وقالت:
      
      — "تشوفي؟ وجوده دخل في روتينك… غيابه يقلقك أكثر من حضوره."
      
      صمتُّ.
      ربى نظرت إليّ مجددًا وقالت:
      
      — "وهذا خطر يا ليلى… أن يكون قلبك مرتبطًا بشخص لا يعطيك ضمان بوجوده."
      أومأت بصمت.
      لم أكن أريد سماع الحقيقة… لكنني كنت أحتاجها.
      
      …
      
      عدت للبيت،
      فتحت هاتفي مرارًا.
      ولا رسالة منه.
      
      ولا حتى قصة منشورة.
      ولا ظهور.
      ولا أي علامة أنه تذكّر أنه غاب.
      
      وقبل أن أنام، كتبت في دفتري:
      
      "أسوأ ما في الحب غير المتوازن،
      أن تغيب أنتَ يومًا…
      ويغيب قلبي أنا لأسبوع."
      
      …
      
      في صباح اليوم التالي،
      دخلت المكتب بتردد خفيف،
      ثم نظرت بسرعة ناحية مكتبه…
      
      وكان هناك.
      جالس، يضع سماعاته، يكتب على الحاسوب،
      كأن شيئًا لم يكن.
      
      …
      
      لم يقل شيئًا.
      ولا أنا.
      
      لكنه رفع عينيه والتقت نظراتنا لحظة…
      ثم أعاد تركيزه على الشاشة.
      
      كأن تلك النظرة كانت كافية ليقول:
      
      "أنا هنا… فقط، لا تسألي."
      
      لكنني كنت على حافة السؤال.
      وعلى حافة الانكسار.
      الفصل السادس: "صمت لا يُحتمل"
      
      عاد آدم في اليوم التالي، كأنه لم يغب أبدًا.
      نفس المشي الواثق.
      نفس الكتف الذي لا ينحني،
      ونفس النظرة التي لا تقول شيئًا… لكنها لا تمرّ مرورًا عاديًا أبدًا.
      
      كان يجلس على مكتبه، يكتب، يصمت، يراقب كل شيء دون أن يبدو كذلك.
      
      وأنا؟
      كنت أراقب نفسي… وهي تنكسر ببطء.
      
      …
      
      حاولت التركيز.
      وضعت سماعاتي، ملأت الشاشة بكلمات لا أقرأها.
      لكني كنت أسمع ضحكته، حتى من خلف الموسيقى.
      صوته الذي لا يرتفع أبدًا… بدا اليوم أكثر حضورًا.
      
      وكأنّه تعمّد أن يعلو قليلًا،
      أن يُظهر وجوده،
      لكن دون أن يوجّه لي حرفًا واحدًا.
      
      …
      
      في منتصف اليوم، مرّ من أمام مكتبي،
      وقف فجأة، وتبادل نكتة مع أحد الزملاء.
      ضحك بصوت أعلى من المعتاد،
      ثم مال بجسده قليلًا، وضع يده على الطاولة المجاورة،
      وبقي هناك… لثوانٍ كثيرة.
      
      كان موقعه يسمح له برؤية وجهي من طرفه،
      وكنت أعلم… أنه يفعل ذلك ليراني.
      
      لا ليتحدث.
      ولا ليُبادر.
      بل فقط… ليستفز حضوري الصامت.
      
      …
      
      بعدها بقليل، دخلت سهى وجلست بقربي.
      لاحظتني وأنا أحاول أن أبدو مشغولة، لكنها تعرفني.
      نظرت نحوي وقالت بصوت خافت، فصيح كعادتها:
      
      — "إنه يتعمّد الوقوف أمامك."
      رفعت نظري، فسألتها بصوت مرهق:
      
      — "هل يبدو الأمر واضحًا هكذا؟"
      أجابت:
      
      — "كل من يملك عينًا ثالثة… يراه.
      صمته ليس حياديًا يا ليلى، إنه يُربكك عمدًا،
      يتركك في دائرة تتأرجحين فيها، بين وهم الحضور… وحقيقة الغياب."
      
      …
      
      لم أرد.
      لكنني شعرت أنّها وضعت إصبعها على الجرح.
      
      آدم لا يبتعد،
      ولا يقترب.
      لكنه دائمًا يعرف أين يقف ليُربكني.
      
      …
      
      في فترة ما بعد الظهر،
      وقف مرة أخرى أمام طاولتي.
      هذه المرة لم يضحك، بل تحدّث مع أحد المسؤولين بلغة جدّية.
      لكن صوته كان مرتفعًا بما يكفي لأسمعه.
      كأنّه يريد أن يقول لي:
      "أنا هنا، حتى وإن كنتُ لا أتحدث إليك."
      
      …
      
      في طريقي إلى البيت، لم أُشغّل الموسيقى كما أعتدت.
      كنت بحاجة لسماع صوتي الداخلي فقط.
      
      سألت نفسي:
      "هل هذا يُعتبر اهتمامًا؟"
      "هل الاستفزاز نوع من الحب؟ أم مجرد عبث؟"
      "هل هو يحاول أن يبقيني قريبة… دون أن يعترف بوجودي؟"
      
      …
      
      في المساء، كتبت في مذكرتي:
      
      "أتعلم ما يُتعب فيك يا آدم؟
      أنك لا تمضي… ولا تبقى.
      لا تقترب كفاية… ولا تختفي كليًا.
      تجعلني أقف وحدي… على حافة حضورك."
      
      …
      
      وما يؤلم أكثر…
      أنني لا أعرف هل هو يفعل ذلك لأنه يحبني،
      أم فقط لأنه يحب أن يعرف أنني ما زلتُ هنا.
      الفصل السابع: الخنجر الذي لم يُسحب
      
      تخيّلي أن تمشي في طريقٍ تعرفينه جيدًا…
      كل زاوية فيه تُشبهك،
      كل حجر حافظ صوتك…
      ثم، في لحظة، يُغلق في وجهك دون سبب.
      
      لا لأنكِ أضعتِه،
      بل لأن أحدهم قرّر أن يسير فيه بدلاً عنك.
      
      …
      
      كان يُدعى آدم.
      وكنت أعلم أنني أحبّه، دون رتوش أو تحفظ.
      كنت أحادثه يوميًا عبر الرسائل،
      نناقش أمورًا عابرة، نضحك، نصمت، نُغلق الحديث فجأة… ثم نعود إليه.
      
      كان صامتًا، مترددًا، باردًا أحيانًا…
      لكنه دائم الحضور.
      
      أما هي… فكانت رزان.
      زميلة العمل، تعرف كل شيء.
      كانت ترى الرسائل، ترى وجهي حين أقرأ كلامه،
      ترى قلبي دون أن أقول شيئًا.
      
      ومع ذلك، اقتربت.
      
      …
      
      خلال عطلة قصيرة، كنت أحاول أن أبتعد قليلًا عن كل شيء.
      عن صوت الرسائل، عن الترقّب، عن الغيرة التي لا اسم لها.
      
      ووقتها… وصلتني الجملة التي لم أنسها أبدًا.
      
      زميل في العمل كتب لي:
      
      "آدم أوصل رزان بسيارته أمس. خرجا معًا بعد الدوام، كنتُ هناك."
      
      قرأت الجملة مرة.
      ثم مرة أخرى.
      
      لم أشعر بشيء في البداية…
      كانت الكلمات جامدة، محايدة، لا لون لها.
      
      لكنّ صدري ضاق فجأة.
      كأن الهواء لم يعد يكفي.
      
      …
      
      عدتُ بالذاكرة إلى آخر مرة سألته فيها عن علاقتها به.
      أجبته:
      
      "ألاحظ أنك تتحدث معها كثيرًا."
      فقال:
      "لا تقلقي. حين لا أضع شخصًا في رأسي، فلن يستطيع أحد الوصول إليّ."
      
      وكنتُ أظن… أنني ذلك "الشخص".
      
      لكن تلك الجملة… ذلك الموقف… أزال القناع.
      
      رزان؟
      كانت تعرف أنه يعرف.
      وكان هو يعرف أنني أعرف.
      ومع ذلك… اختار أن يسمح لها بالاقتراب.
      
      …
      
      لم أُواجهه.
      لم أُعاتب.
      لم أرسل أي شيء.
      
      قررت فقط… أن أختفي.
      
      صمتٌ تام.
      لم يكن لديّ طاقة للغضب، ولا للرثاء.
      فقط خيبة، تنمو بصمتٍ بين الضلوع.
      
      ولم يكتب لي.
      لم يسأل، لم يحاول.
      
      وكأنّ ما بيننا… لم يكن أبدًا.
      
      …
      
      مرّ أسبوع كامل.
      
      عدت بعدها للعمل،
      بملامح هادئة كعادتي،
      لكن شيئًا داخليًا لم يكن كما هو.
      
      كنت أراه من بعيد،
      يجلس على مكتبه، يكتب، يتظاهر بالتركيز…
      لكن ملامحه كانت شاردة.
      
      كانت نظرته مختلفة.
      كان يتلفّت كثيرًا،
      وكأن شيئًا يثقل عليه، لا يُقال.
      
      …
      
      في أحد الأيام، لمحته يجلس وحده،
      لا أحد حوله، وجهه متعب، عيناه مطفأتان.
      
      شعرت بشيء يهتز داخلي.
      كل ما كنتُ أود قوله له:
      "لقد اخترتَ غيري، فلا تعُد."
      
      لكن بدلًا من ذلك…
      أمسكت هاتفي، وكتبت له رسالة.
      
      "هل أنت بخير؟ تبدو متعبًا اليوم."
      
      لم أنتظر جوابًا طويلًا.
      بعد دقائق، جاء ردّه:
      
      "أنا بخير… فقط بعض التوتر."
      
      فكتبت له، وأنا لا أصدّق ما أفعله:
      
      "كنتُ أنوي ألا أتحدث معك مجددًا…
      لأن الرجل الذي يدور حوله الكثير من الفتيات… لا يلزمني."
      
      وصمتُّ.
      
      …
      
      بعد لحظات، ردّ بكلماته القليلة التي يعرف كيف يختارها جيدًا:
      
      "لا يجب أن تتخلي عن شيءٍ تريدينه."
      
      …
      
      قرأت الجملة مرارًا.
      لم تكن اعتذارًا.
      ولا وعدًا.
      
      لكنها كانت كافية لتربكني…
      كافية لتعيدني.
      
      …
      
      في المساء، كتبت في دفتري:
      
      "أنا لا أحتاجك أن تعدني بشيء.
      فقط… أن تختارني،
      دون أن تجعلني أشعر أنني خيارك الثاني."
      
      …
      
      وفي اليوم التالي…
      عدنا نتحدّث، كأن شيئًا لم يحدث.
      كأنني لم أنكسر.
      وكأنني… لم أعد من خيبة.
      الفصل التاسع: في أول الطريق
      
      ⸻
      
      كنت أعلم أن عيد ميلاده يقترب.
      ولم يكن الأمر سهلًا عليّ.
      
      آدم لا يحب الاحتفالات، ولا المفاجآت،
      وربما لا يرى في يوم ميلاده شيئًا يستحق الوقوف عنده…
      لكن أنا، كنت أراه يومًا كبيرًا.
      
      ليس لأنه يومه فقط، بل لأنه الفرصة الوحيدة التي أملكها لأقول له شيئًا… دون أن أتكلّم كثيرًا.
      
      …
      
      قبلها بأيام، رحت أبحث عن هدية.
      لم يكن الأمر سهلًا، فهو لا يُظهر ما يحب، ولا يعطي إشارات.
      لكني، عندما رأيت ذاك السوار، شعرت بشيء.
      بساطته، لونه، تصميمه، كل شيء فيه يشبهه.
      
      اشتريته دون تردد، وكأني أخيرًا وجدت طريقة أقول له بها:
      
      "أنا أراك."
      
      …
      
      عند منتصف الليل، عندما دخل يوم ميلاده رسميًا،
      أرسلت له رسالة هادئة، لا تشبه رسائل التهنئة المعتادة.
      
      كتبت فقط:
      
      "عيد سعيد…"
      ثم أضفت جملة بلغة لا يفهمها،
      كلمات بسيطة، لكنها تحمل أكثر مما بدا فيها:
      
      "أحب وجودك في حياتي، أكثر مما أستطيع قوله."
      
      لم أنتظر ردًا،
      ولم أره في تلك الليلة متصلاً.
      
      لكن قلبي ظل مفتوحًا طوال الليل،
      كأنّه ينتظر شيئًا لن يأتي.
      
      …
      
      في الصباح، كتب لي:
      
      — "وصلت رسالتك.
      قرأت الجملة ولم أفهمها… لكن سأترجمها يومًا ما."
      
      ابتسمت.
      كنت أعرف أنه لن يسأل مباشرة،
      وأنه لن يرد بكلمة "شكراً" كما يفعل الجميع.
      
      هو فقط… يترك الأمور تمر، لكنه لا ينساها.
      
      …
      
      كتبت له بعدها:
      
      — "متى نلتقي؟ لدي شيء صغير لك."
      
      ردّ دون تردد:
      
      — "في أي وقت تريدين."
      
      ترددت.
      ثم قررت أن أجعل من اليوم لحظة كاملة.
      
      قلت له:
      
      — "فلنقضِ اليوم معًا… يوم ميلادك، كما أتمناه أنا."
      
      لم يكن جوابه رافضًا…
      لكنه أخبرني أن المديرة لم توافق على خروجه من العمل.
      
      أرسل لي بعدها:
      
      — "خطتك لم تنجح."
      فكتبت له:
      
      — "لا بأس… عندما تنتهي من العمل، تعال إليّ، وسأعطيك هديتك."
      
      قال:
      
      — "حسنًا."
      
      …
      
      كل شيء فيّ كان يتحرّك.
      لم أكن فقط أنتظر نهاية الدوام،
      بل كنت أهيّئ قلبي للحظة قد تكون عادية بالنسبة له… لكنها بالنسبة لي، بداية شيء جديد.
      
      …
      
      عند المساء، اتصل بي.
      أخبرني أنه أنهى عمله، وسيمرّ.
      
      قلبي كان يخفق كأنها أول مرة أراه،
      رغم أننا تحدثنا مئات المرات من قبل.
      
      لكن هذه اللحظة… كانت مختلفة.
      
      …
      
      خرجت من البيت بخطوات بطيئة.
      رأيته من بعيد ينتظرني في السيارة.
      كان الجو صامتًا،
      لكن عينيه حين التقتا بعيني، قالت الكثير.
      
      ركبت السيارة.
      كانت هذه أول مرة أجلس فيها إلى جانبه،
      قريبة… لكنني لا أعرف كيف أبدو له.
      
      لم أمدّ له الهدية مباشرة.
      تركتها بجانبي، حتى لا يبدو كل شيء مُجهزًا.
      
      هو من بادر:
      
      — "أين هديتي؟"
      
      ناولته العلبة دون أن أنظر إليه مباشرة.
      نظر إليها، لم يفتحها فورًا.
      وضعها في حضنه وقال:
      
      — "سأفتحها في البيت."
      
      ثم نظر إليّ بابتسامة خفيفة:
      
      — "لكن شكلي أعجبتني."
      
      …
      
      تحدثنا قليلًا.
      لم يكن هناك شيء عميق في الكلمات،
      لكن حضوري بجانبه كان بحد ذاته شيئًا كبيرًا.
      
      كنت أسمع صوت المحرك، أنظر إلى الطريق،
      وأشعر بأن المسافة بيننا قد تقلّصت فجأة.
      
      …
      
      وصل بي إلى حيث أردت.
      قبل أن أنزل، قال لي:
      
      — "شكرًا… ليس على الهدية فقط، بل على أنكِ فكرتِ بي."
      
      قلت له:
      
      — "أنا لا أتوقف عن التفكير."
      
      لم يجب.
      لكنه نظر إليّ نظرة لن أنساها.
      
      نظرة تقول: "أشعر بكِ، ولو لم أقل شيئًا."
      
      …
      
      عدت إلى البيت وقلبي ليس كما كان.
      لم يكن ممتلئًا تمامًا، لكنه لم يكن فارغًا أيضًا.
      
      كنت أملك منه ذكرى:
      رحلة قصيرة، سيارة هادئة، نظرة… وسوار بسيط حملته له في يوم ميلاده.
      
      وكانت تلك بداية الطريق.
      الفصل الحادي عشر: حين قرّر أن يذهب
      
      ⸻
      
      لم يكن في صوته نبرة مختلفة،
      ولا في طريقته تلك الليلة ما يوحي بشيء خارج المألوف.
      كل شيء بدا عاديًا… حتى قالها:
      
      "قدّمت استقالتي."
      
      جملة قصيرة. واضحة. بلا تفسير، بلا مقدمة، بلا تفاصيل.
      
      وقفت لثوانٍ أنظر للهاتف،
      ثم كتبت له بسرعة، وكأني أحتاج تأكيدًا يُنقذني:
      
      "هل هذا… صحيح؟"
      
      ردّ بهدوء يشبهه:
      
      "نعم. بقي لي شهر فقط."
      
      …
      
      لم أكتب شيئًا بعدها فورًا.
      بقيت الكلمات تختنق في صدري.
      لم أعرف ماذا أقول… هل أهنّئه؟ أعاتبه؟ أعبّر عن حزني؟
      أم أعود إلى صمتي، كما أفعل دائمًا؟
      
      لكني لم أستطع تجاهل شعور الغصة الذي ظهر في منتصف صدري.
      شهر فقط؟
      شهر… ثم ماذا؟
      ثم تختفي من المكان، من الممرات، من لحظات الانتظار العابرة، من تلك اللحظات التي لا تعني شيئًا لأحد، لكنها كانت تعني لي كل شيء.
      
      …
      
      تركت هاتفي لدقائق،
      ثم عدت، وكتبت له جملة خرجت من داخلي دون أن أفكّر:
      
      "إذا ذهبت… ستنساني."
      
      كانت الجملة بسيطة. لكنّها تحمل في طياتها رجفة،
      وخوفًا حقيقيًا من أن يكون كل ما بيننا… مجرد وقت مشترك سينتهي بانتهاء العمل.
      
      ردّ بعد لحظة:
      
      "ليس بالضرورة أن أنساك."
      
      كعادته، لا يعطيك وعدًا، ولا ينكر شعورك.
      فقط يتركك في منطقة رمادية… معلّقة بين الاحتمالات.
      
      ثم كتب:
      
      "لا تفعلي أشياء تجعليني أنساك… أو أمحوك."
      
      كأنّه يحمّلني مسؤولية بقائي في ذاكرته،
      أو كأنّه يقول لي بهدوء: "البقاء ليس وعدًا، إنه اختيار… وربما اختبار."
      
      …
      
      تلك الليلة، لم أنم.
      كان في رأسي صدى بعيد للجمل الثلاث:
      الاستقالة. الشهر. النسيان.
      
      وكلما أغمضت عيني،
      كنت أرى صورة المكتب بدونه،
      وأشعر بثقل الغياب، حتى قبل أن يحدث.
      
      رحيله لم يكن نهاية حضور فقط،
      بل بداية لمرحلة لا أعرف كيف أعيشها…
      دونه.
      الفصل الثاني عشر: اليوم الذي خرجتُ فيه قبله
      
      ⸻
      
      لم يكن اليوم عاديًا.
      حتى لو حاولت أن أُقنع نفسي بالعكس،
      حتى لو حاولت أن أمشي في الممرات وكأن لا شيء يحدث،
      كنت أعرف في داخلي… أن هذا هو اليوم الأخير.
      
      اليوم الذي سيغادر فيه آدم، رسميًا،
      ويُغلق الباب خلفه… وربما لا يعود.
      
      …
      
      استيقظت باكرًا، كأن قلبي استيقظ قبلي.
      لم أحتج إلى منبّه، ولا إلى نداء داخلي.
      كان هناك شعور غريب يسكن صدري،
      شعور أقرب للارتباك… أو الحزن الصامت.
      
      ارتديت ملابسي كما أفعل كل يوم.
      لكنني لم أرتب شعري بنفس العناية.
      ولم أضع شيئًا من الزينة.
      لم أرغب أن أبدو بأفضل حال، ولا بأسوأ حال،
      كنت فقط… لا أريد أن أكون هناك.
      
      …
      
      في الطريق إلى العمل، لم أفكّر بشيء.
      كنت أراقب الشوارع من خلف زجاج السيارة وكأنني أودّعها أيضًا.
      كل شيء كان يمشي كالمعتاد… عدا قلبي.
      
      وصلت إلى المكتب.
      سلمت بهدوء، وضعت حقيبتي، وفتحت حاسوبي،
      لكنني لم أعمل شيئًا.
      
      كنت أسمع همسات الزملاء، أراهم يتحركون نحوه،
      واحد يمازحه، وآخر يودّعه، والمديرة تتحدث إليه كما تفعل دائمًا،
      أما أنا… فكنت أراقب من بعيد، من خلف ظهري، من بين الأصوات.
      
      …
      
      لم أتقدّم نحوه.
      لم أفتح معه موضوعًا، ولم أتجرأ أن أقترب.
      
      كنت أعرف أن لحظة الوداع قد تكسر شيئًا فيّ.
      وقد تجعلني أقول ما لا يجب أن يُقال،
      أو أبكي، أو أتعلّق، أو أندم.
      
      فاخترت الهروب.
      
      …
      
      قررت أن أخرج قبل أن يخرج هو.
      جمعت أغراضي، وسرت نحو الباب،
      وقبل أن أغادر، التفتُ بسرعة إلى الخلف…
      
      رأيته في مكانه، يتحدث مع أحدهم، يضحك بخفة،
      كما لو أن الغياب لا يعني له الكثير.
      
      ربما لم يشعر أنني خرجت،
      وربما شعر… لكنه اختار الصمت.
      
      كما نفعل دائمًا.
      
      …
      
      وصلت إلى بيتي مثقلة.
      جلست على طرف السرير، لا أفكر بشيء، ولا أفعل شيئًا.
      كنت فقط أنتظر أن ينتهي هذا اليوم… دون دموع.
      
      لكنه لم ينتهِ.
      
      …
      
      في الليل، بينما كنت أقلب هاتفي بشرود،
      وصلني إشعار.
      
      فتحت الرسالة.
      
      كانت صورة.
      
      آدم…
      يرتدي السوار الذي أهديته له يوم عيد ميلاده.
      يده، معصمه، وتلك اللمسة التي عرفتها جيدًا… كانت في الصورة.
      
      لا تعليق.
      لا كلمة.
      فقط صورة.
      
      لكني فهمت كل شيء.
      
      …
      
      لم يكن بحاجة ليكتب "شكرًا"،
      ولا أن يقول "تذكّرتك"،
      ولا حتى "أردت أن أراكِ قبل أن أرحل".
      
      هو لا يقول هذه الأشياء.
      
      لكنه أرسل الصورة.
      
      وذلك يكفي.
      
      …
      
      بقيت أحدّق فيها طويلًا،
      وتذكرت أنني في يومٍ ما، طلبت منه أن يرسل لي صورة عندما يرتدي السوار.
      قال لي حينها إنه سيصوّره… حين يأتي الوقت.
      
      والوقت أتى.
      تمامًا حين لم أتوقّعه.
      تمامًا حين كنت أظن أن كل شيء قد انتهى.
      
      …
      
      ربما لم أودّعه.
      لكنه ودّعني… بطريقته.
      
      وذلك وحده…
      كان يكفي ليربت على قلبي المتعب.
      الفصل الثالث عشر: نهاية لم تكن صاخبة
      
      ⸻
      
      منذ أن غادر آدم الشركة، بدأت ألاحظ شيئًا يتغيّر…
      لا، لم يكن غيابه وحده ما أوجعني، بل ذلك التحوّل البارد في طريقته، في نبرته، في كل ما كنّا عليه.
      
      كان الحضور ذاته قد اختلف.
      لم يعد يسأل كما اعتاد.
      لم يعد يضحك كما كان.
      لم تعد الرسائل تشبه رسائله.
      
      ردوده صارت قصيرة، مُجفّفة من المشاعر،
      وأحيانًا… لا يرد أصلًا.
      
      …
      
      حاولتُ أن أقنع نفسي أنه مشغول،
      أنه فقط يُعيد ترتيب نفسه بعد الاستقالة،
      أن الحياة الجديدة ربما تأخذه قليلًا… ثم يعُود.
      
      لكن شيئًا في داخلي كان يصرخ:
      "هو لا يعود، بل يبتعد."
      
      …
      
      ثم جاء اسم رزان.
      ذلك الاسم الذي كان ثقيلًا في قلبي حتى قبل أن يحدث شيء.
      كنت أعلم أنها تحاول، رغم معرفتها بنا،
      ورغم علمها أن قلبي متورط معه إلى حدّ الغرق.
      
      كنت أخبر نفسي أن آدم مختلف،
      أنه لا يعطي أحدًا مكانًا لا يستحقه،
      لكن الصمت الذي أحاط بهما كان يكفي ليزلزل يقيني.
      
      …
      
      وصلتُ إلى لحظة… لم أعد أتحمل فيها الغموض.
      
      كتبت له:
      
      "اختر… بيني وبينها."
      
      كنت واضحة، لا أريد التباسًا.
      لا أريد أن أكون فتاة في الظل،
      ولا ظلًّا لفتاة أخرى.
      
      ردّ بعد دقائق:
      
      "أختارك طبعًا."
      
      كلماته كانت مرتبة…
      لكنها لم تُقنعني.
      
      كأنني قرأت كذبه بين الحروف.
      كأن قلبه لم يكن معي وهو يكتبها.
      
      لكنني، كما أفعل دومًا، سامحت اللحظة… واحتضنت الكلمة.
      
      …
      
      ثم، وبعد أيام فقط… وصلني ما لم أكن أريد تصديقه.
      
      ما زال يتحدث إليها.
      
      ورغم أنني لم أبحث، لم أفتش،
      إلا أن الحقيقة ظهرت لي وحدها، قاسية، باردة، جاهزة لتقلب كل شيء في لحظة.
      
      …
      
      أدركت أني كنت الخيار الذي قيل له: "أنتِ."
      لكن لم يكن يومًا الاختيار الحقيقي.
      
      أدركت أنني كنت أنتظر،
      بينما كان يمنح وقته، وكلامه، واهتمامه… لغيري.
      
      …
      
      لم أصرخ.
      لم أعاتب.
      لم أطلب تفسيرًا.
      
      أحيانًا… الخيانة لا تحتاج شرحًا.
      
      فقط كتبت له:
      
      "كل شيء انتهى."
      
      وأرسلت الرسالة.
      
      دون تردد، دون انتظار ردٍّ يلطف الوجع،
      دون أي محاولة أخيرة للتمسّك.
      
      وبعد دقائق، جاء رده:
      
      "كل شيء انتهى."
      
      الجملة نفسها.
      نفس عدد الكلمات.
      نفس البرود.
      نفس الوجع… ولكن بطريقته.
      
      …
      
      حين قرأتها، انفجرت بالبكاء.
      
      بكيت كما لم أفعل من قبل.
      بكيت كأنني كنت أحبس الدموع لأشهر طويلة،
      كأنها لحظة دفعت ثمن كل صمتي، وكل تسامحي، وكل انتظاري.
      
      جلست على الأرض، رأسي بين يديّ، وقلبي في الحضيض.
      كنت أرتجف من الداخل.
      
      كيف يمكن أن تنتهي كل تلك المشاعر برسالة؟
      كيف يمكن أن يرد عليّ بتلك السهولة؟
      كأن ما بيننا لا يساوي شيئًا؟
      
      …
      
      في تلك الليلة، كنت أسترجع كل شيء…
      صوره القليلة، ضحكته في الممر، مزاحه البسيط، السوار، الرسائل، حتى نبرة صوته حين كان يقول "لا" كعادته…
      
      كنت أبحث عن دليل يطمئنني أنني لم أكن أتوهّم كل ما شعرت به.
      لكن حتى الذكريات، تلك التي أحببتها، كانت تؤلمني.
      
      كان كأنه معي في كل مكان…
      إلا في هذه الرسالة.
      
      …
      
      "كل شيء انتهى."
      ربما كانت النهاية بالنسبة له مجرد قرار.
      أما أنا…
      فكانت هدمًا داخليًا، سقوطًا حرًا، ونقطة لا عودة.
      الفصل الرابع عشر: موسم الحنين
      
      ⸻
      
      خمسة عشر يومًا.
      
      خمسة عشر يومًا مرّت وأنا أحاول أن أبدو بخير…
      أن أعيش، أن أكتب، أن أضحك…
      لكن الحقيقة؟
      أن شيئًا داخلي كان يتآكل ببطء.
      
      كنت أستيقظ كل صباح، أحمل هاتفي تلقائيًا،
      أفتح الرسائل… لا شيء.
      أنتظر الإشعار… لا شيء.
      
      لم يعد يكتب، ولم يعد يسأل،
      ولم يعد يدخل حتى ليرى ما أنشره،
      كأن وجودي لم يعد له وجود في عالمه الرقمي ولا الواقعي.
      
      …
      
      كان الغياب قاسيًا،
      لكن الأشد منه… أنني أنا من قررت الانسحاب.
      أنا من كتبت: "كل شيء انتهى."
      لكنني لم أقصد أن ينتهي تمامًا.
      
      كنت أريد منه أن يتمسّك، أن يعترض، أن يُظهر شيئًا من الرفض…
      لكنه، كالعادة، اكتفى بالصمت.
      
      وكأنني لم أكن شيئًا يُفتَقد.
      
      …
      
      مرّ أسبوع. ثم أسبوعان.
      
      وفي اليوم الخامس عشر، بينما كنت أفتح قصتي القصيرة التي نشرتها على صفحتي…
      رأيت اسمه.
      هو… دخل، وشاهد.
      
      اسمه بين المشاهدين أضاء داخلي شرارة صغيرة.
      شيء أشبه برجفة، أو تنهيدة… أو خيبة.
      
      لِم الآن؟
      لِم بعد كل هذا الوقت؟
      
      ربما كان مجرد فضول.
      وربما… اشتاق أيضًا.
      لكنني، كعادتي، قرأت الكثير من القليل.
      
      …
      
      حاولت أن أتماسك،
      أن لا أرسل شيئًا، أن لا أستسلم.
      
      لكني كنت أذوب…
      ولم يكن قلبي قويًا بما يكفي.
      
      …
      
      قبل رأس السنة بيومين،
      حملت هاتفي وكتبت له رسالة قصيرة:
      
      "لا أستطيع أن أبدأ عامًا جديدًا وأنا متخاصمة معك…"
      
      كتبتها، حذفتها، كتبتها من جديد.
      ثم أرسلتها… بصمت، بدعاء، بقلق.
      
      جاء رده بعد قليل:
      
      "أنا لم أُخاصمك… أنتِ من اخترتِ الابتعاد."
      
      كلماته كانت مثل صفعة.
      باردة، صادقة، قاسية.
      
      ربما كان محقًّا.
      لكني كنت أتمنّى أن يقول عكس ذلك.
      
      …
      
      مرت الساعات.
      
      ثم جاءت ليلة رأس السنة.
      
      أعرف أنه لا يقدّم على التهاني عادة،
      ولا يهتم كثيرًا بهذه المناسبات.
      
      لكني كنت أول من كتب له.
      
      "سنة سعيدة آدم… لتكن كل أعوامنا معًا."
      
      أرسلتها بقلبٍ لا يزال يحمل ألمه،
      لكن يحمل في داخله شيئًا من الرجاء.
      
      "لتكن كل أعوامنا معًا"
      قلتُها وأنا لا أعرف هل سيقرأها… هل سيبتسم… هل سيكمل العام معي؟
      
      لكني كتبتها.
      
      بكل ما تبقّى فيّ من أمل.
      
      …
      
      وانتهت الليلة
      الفصل الخامس عشر: ضحكة بعد الغياب
      
      ⸻
      
      لم أكن أنتظر جوابًا.
      
      حين أرسلت له تلك الجملة في ليلة رأس السنة:
      
      "سنة سعيدة آدم… لتكن كل أعوامنا معًا"
      كنت فقط أريد أن أقولها.
      
      لا لشيء،
      بل لأن شيئًا بداخلي لم يحتمل فكرة أن تمر سنة أخرى… وهو ليس فيها.
      
      …
      
      مرت دقائق قليلة،
      ثم رأيت إشعارًا يظهر على الشاشة.
      
      فتحت الرسالة.
      
      كانت منه.
      
      كلمة، كلمتان، ثم ضحكة.
      ضحكته.
      تلك الضحكة التي كنت أحاول إقناع نفسي بأنني لم أفتقدها.
      
      لكنني كذبت على نفسي كثيرًا…
      وها أنا أضعف تمامًا أمامها.
      
      …
      
      بدأ الحديث يتسلل بخفة،
      كما لو أن كل شيء الذي مضى لم يكن سوى استراحة،
      وكأن الوجع الذي ضمّني أسبوعين كاملين،
      والبكاء الذي أنهكني،
      والخذلان الذي طعنني…
      
      نسيته كلّه، فقط… لأن آدم عاد.
      
      …
      
      كان هو نفسه:
      ببروده، بجمله القصيرة، بضحكته الماكرة، بتعليقاته الخفيفة.
      
      لكنه بدا أكثر ليونة.
      أقرب قليلًا.
      وربما… أكثر حضورًا مما كنت أتوقع.
      
      …
      
      أعدنا تلك الليلة تفاصيل كثيرة.
      
      سألني عن أمنيتي في السنة الجديدة،
      سألته عن خططه،
      سألني إن كنت قد نمت بعد الرسالة،
      فقلت: لم أستطع.
      قال لي: ولا أنا.
      وضحكنا.
      
      …
      
      ضحكنا كثيرًا،
      وضمنيًا…
      غفرت له دون أن أقول،
      وسألته دون أن أسأل: "هل ما زلت هنا؟"
      وأجابني دون أن يكتبها: "أنا لم أرحل تمامًا."
      
      …
      
      أغلقتُ الهاتف بعد ساعات طويلة من الحديث.
      ونظرت إلى السقف المظلم في غرفتي.
      ابتسمت دون أن أشعر.
      
      كل شيء تغيّر.
      
      هو نفسه…
      لكنه عاد إليّ.
      
      وأنا؟
      أنا كنت كفيلة بنسيان خذلان أسبوعين… فقط من أجل هذه الليلة.
      
      …
      
      ربما نحن لسنا قصة حب مثالية،
      ولا حكاية مكتملة التفاصيل.
      لكننا، في تلك الليلة، كنا اثنين…
      يتشبث كلٌّ منهما بالآخر، بطريقته.
      
      وهذا وحده… كان يكفيني لأبتسم بعد البكاء.
      الفصل السادس عشر: ليلة فتحت فيها قلبي… وسمعت ما كنت أحتاج إليه
      
      ⸻
      
      لم أكن أتوقع أن يكتب لي ذلك مساءً.
      كانت ليلة هادئة مثل غيرها، كنت أحاول أن أُشغل نفسي بشيء لا يُشبه التفكير…
      لكنني كنت، كعادتي، أعود إلى الرسائل، إليه.
      
      فإذا به يكتب:
      
      "أنا هنا… فقط احكي لي.
      ما الذي يزعجك؟"
      
      أعدت قراءة الجملة مرتين.
      آدم؟ يسألني؟
      هو الذي دائمًا يُخفي، يُؤجّل، يكتفي بنصوص مقتضبة،
      الآن يقول لي: احكي لي.
      
      أجبته بعد تردّد:
      
      "هل أنت متأكد أنك تريد أن تعرف؟
      لأنني لو بدأت… لن أنتهي بسرعة."
      
      قال:
      
      "ابدئي."
      
      …
      
      فبدأت.
      
      حكيت له كل شيء…
      عن تلك الخطبة القديمة،
      عن العلاقة التي دخلتُها وأنا أحاول الهرب من حبٍّ كنت أظنه مستحيلًا،
      عن كيف وجدت نفسي في علاقة خالية من الحب، مليئة بخيبات متتالية.
      
      عن عامين كنت أشعر فيهما أنني أقوى من الرجل الذي يُفترض أن يكون سندًا لي.
      عن والدي، الذي لم يكن يتحدث إليّ حين رفضت الاستمرار،
      وكيف وجدت نفسي أواجه الجميع وحدي.
      
      كان يسمعني…
      بطريقته.
      
      بهدوئه، بسكوته، بذلك النوع من الصمت الذي فيه إنصاتٌ أكثر من الكلام.
      
      ولم يقاطعني.
      
      وحين انتهيت، سألته بهدوء:
      
      "وأنت؟ لماذا لا تفتح قلبك؟
      لماذا لا تخبرني عنك كما أخبرتك أنا عني؟"
      
      فأجاب، ببساطته المعتادة:
      
      "هذه طبيعتي…
      كثيرون حاولوا قبلك، ولم ينجح أحد."
      
      أحسست بخيبة صغيرة…
      لكنني لم أُظهرها.
      
      بل ابتسمت وقلت له:
      
      "سأبقى أحاول… فقط لا تطلب مني الرحيل.
      وأنا لن أتركك أبدًا."
      
      وبعد لحظات من الصمت، أجابني.
      
      بطريقة لم أتوقّعها.
      بكلمات كانت أغلى من كل ما قاله من قبل:
      
      "لن أقول لكِ ارحلي أبدًا."
      
      تلك الجملة…
      لم تكن طويلة، لكنها ضمّتني.
      
      كأنها ذراعاه تلتفّان حول خوفي، وتطمئنان قلبي الصغير المرتجف.
      
      …
      
      من تلك الليلة… بدأت أشياء كثيرة تتغيّر.
      
      بدأتُ أراه أقرب.
      كأن جملته فتحت بابًا كان موصدًا طويلًا.
      
      وبدأت أجمل شهرين في حياتي.
      
      كان كل شيء بسيطًا…
      لكن في بساطته، كان مليئًا بكل ما كنت أبحث عنه من دفء.
      
      …
      
      وفي يومٍ عادي، دون أي مناسبة،
      قدّمت له شيئًا عزيزًا عليّ جدًا:
      
      قطتي.
      
      كنتُ أحبها كثيرًا.
      لكنني شعرت في تلك اللحظة أن منحه إياها كان أصدق شكل من أشكال القرب.
      
      كأنني أقول له دون كلام:
      "ها هي قطعة من عالمي… أضعها بين يديك."
      
      …
      
      كان يحملها بخفة، يُمسّد على ظهرها،
      وكانت ترتاح له بشكل أدهشني.
      
      كنت أراقبه بصمت، وقلبي مليء.
      
      ذلك اليوم…
      شعرت بشيء يشبه العائلة الصغيرة.
      رجل، وفتاة، وقطة.
      
      لا حبًّا كبيرًا صاخبًا، ولا اعترافات، ولا أحلام وردية.
      لكن دفءٌ حقيقي.
      
      شعرت أنني، لأول مرة، لا أحتاج أن أُثبت شيئًا.
      فقط… أعيش.
      
      …
      
      ومع كل ليلة تمر، كنت أكتشف أنني تعلّقت به أكثر.
      
      لا لأنه كان مثاليًا…
      بل لأنه، في تلك الليلة، حين احتجت إلى كلمة،
      قالها:
      
      "لن أقول لكِ ارحلي أبدًا."
      الفصل السابع عشر: وحدي في مواجهة الخوف… والناس
      
      ⸻
      
      كان كل شيء يسير بهدوء.
      
      ضحكات صغيرة، أحاديث مسائية، لمسات من دفء نادر…
      لكنّي كنت أعلم — بطريقتي — أن هذا لا يدوم طويلًا مع آدم.
      
      آدم لا يستقر.
      ليس لأنه لا يريد، بل لأنه لا يعرف كيف.
      
      …
      
      بدأ التغيّر خفيفًا.
      لم يكن واضحًا، لكنه كان مؤلمًا.
      
      رسالة تُؤجَّل، ردّ يتأخر، نبرة أقل حماسة…
      ثم تلك المسافة التي شعرت بها بيني وبينه، دون أن أراها،
      لكنني… كنت أراها بعيني قلبي.
      
      …
      
      كنت أقول لنفسي:
      
      "ربما مشغول.
      ربما يمرّ بشيء ما.
      لا تُفسري الأمور دائمًا بهذا الشكل، يا ليلى."
      
      لكنني كنت أعلم…
      أنه يهرب.
      
      ليس مني، بل من الفكرة.
      من الارتباط.
      من الحبّ الذي بدأ يتسلل إلى قلبه دون أن يعترف به.
      
      …
      
      قالها مرة، كأنها مزحة:
      
      "أخشى أن أقع في حبّ فتاة… ثم أُغيّر أولوياتي."
      
      ضحكتُ حينها،
      لكن بداخلي لم أضحك.
      
      قلت له يومها:
      
      "أليس هذا ما يُفترض أن يحدث حين نحب؟
      أن نغيّر بعض الأشياء لأجل من نحبّهم؟"
      
      هزّ رأسه، ولم يُجب.
      
      …
      
      كان يخاف.
      من الالتزام، من التعلّق، من أن يتنازل يومًا،
      من أن يرى نفسه ضعيفًا أمام شخص ما…
      أمامي.
      
      ولأنّه يخاف… بدأ يبتعد.
      
      …
      
      وأنا؟
      أنا بدأت أتألّم بصمت.
      
      ما عادت المحادثات تشبه ما كانت عليه،
      وما عاد صوته يحمل تلك النبرة التي تسكنني.
      
      كنت أحاول،
      أرسل، أُمازح، أفتح مواضيع جديدة،
      لكن شيئًا ما كان يتراجع كل يوم، وكنت أراه… وأتجاهله.
      
      …
      
      ثم بدأت الجبهة الأخرى في الضغط.
      
      صديقتي المقربة، "ربى"، كانت أكثرهم صدقًا، لكنها كانت واضحة جدًا:
      
      "ليلى… إلى متى ستبقين في هذه الدائرة؟
      ألم تري كم يرهقك؟
      هذا الرجل لا يشبهك، ولا يمنحك ما تستحقين."
      
      كانت تقولها من حرصها، أعلم.
      لكنها كانت تزيد ألمي.
      
      …
      
      أختي، وابنة عمي، أيضًا،
      لم يكن يُعجبهم تمسّكي بعلاقة يرونها من طرف واحد.
      
      "تتعبين لأجله،
      تدافعين عنه،
      ثم تعودين باكية دائمًا."
      
      كانوا يقولون… وأصمت.
      
      …
      
      حتى صديق آدم نفسه، الذي كان في البداية يؤيدنا،
      بدأ يتراجع في موقفه.
      
      لم يطلب مني أن أبتعد،
      لكنه قالها ذات مرة، بهدوء:
      
      "أنتما مختلفان كثيرًا، ليلى…
      لكنه لا يبدو مستعدًا، وأنتِ… تستحقين من يحملك، لا من تُحملينه."
      
      …
      
      كنت وحدي.
      تمامًا.
      
      في جهة واحدة، قلبي الذي يحبّه.
      وفي الجهة الأخرى، الجميع… والواقع… وصمته المتكرّر.
      
      كنت أقاتل، لا لأجلي فقط، بل لأجل أن لا أكون مثل كل من قبلي.
      لأثبت له، ولي، أن الحبّ لا يجب أن يكون مرعبًا دائمًا.
      
      …
      
      لكن آدم؟
      آدم كان يهرب.
      
      وكلما اقتربتُ، زاد خطوته إلى الوراء.
      
      …
      
      وفي الليالي التي أنام فيها باكية،
      كنت أسأل نفسي:
      
      "هل يستحق؟
      هل يُفترض أن أكون بهذا الوضوح،
      بينما هو يعيش في منطقة رمادية؟"
      
      لكنني كنت أستيقظ،
      وأرسل له رسالة صباحية كأن شيئًا لم يحدث.
      
      لأني كنت أخاف، أكثر من أي شيء،
      أن أفقده.
      الفصل الثامن عشر: مكانتي… المعلّقة في الهواء
      
      ⸻
      
      كنت أتحمّل.
      أتظاهر أن الأمور على ما يرام.
      أنّ المسافة التي يكبر ظلّها بيني وبينه مجرد ظرف مؤقت.
      أنّ الفتور، والتجاهل، وقلة الحديث… أشياء عابرة.
      لكني كنت أعرف.
      
      كنت أعرف أن الأمور تتغيّر، وأن آدم… لم يعد كما كان.
      
      …
      
      لم تكن هناك خيانة صريحة.
      ولا كلمات جارحة.
      لكنّ التغيّر وحده، ذلك الانسحاب الصامت،
      كان كافيًا ليُضعف قلبي شيئًا فشيئًا.
      
      كل ما في داخلي كان يصرخ:
      
      "قُل شيئًا… أي شيء.
      طمئني، اشرح، برر، قاتل، احمني من هذا الشك الذي يأكلني كل ليلة."
      
      لكنه لم يقل شيئًا.
      
      …
      
      فقررت أن أُصارحه.
      ليس بالعتاب، ولا بالبكاء،
      بل بسؤال بسيط… واضح… حاسم:
      
      "أخبرني… ما هي مكانتي عندك؟"
      
      صمت قليلًا.
      ثم كتب…
      
      ولم أنسَ الجملة أبدًا:
      
      "لا أعرف ماذا أريد."
      
      …
      
      هكذا، ببساطة.
      لا يقين، لا مشاعر معلنة، لا محاولة طمأنة.
      فقط ضياع… كأنه يقول لي:
      "ابقِ إن شئتِ… أو ارحلي، الأمر سيّان."
      
      …
      
      أغلقت الرسالة.
      وبكيت.
      
      كنت أبحث عن يقين،
      عن وعد صغير،
      عن شيء واحد يُشبه الحبّ الذي كنت أقدّمه له بقلبي كاملًا.
      
      لكنّني لم أجد.
      وجدت رجلاً يخاف من وضوحه، ومن التزامه، ومن نفسه.
      
      …
      
      في تلك الليلة، شعرت وكأنني علّقت قلبي على حافة باب لا يُغلق ولا يُفتح.
      وكأنني أصبحت "شبه شيء" في حياة أحدهم…
      و"كل شيء" في ألمي.
      
      …
      
      لم أُنهِ الحديث.
      لم أودّعه.
      ولم أقل له: "سأنسحب."
      
      كنت فقط أنتظر أن يحدث شيء.
      أن يقول كلمة، أن يُعيدني إلى مكانٍ كنت أظن أنني أحتله في قلبه.
      
      لكنه اكتفى بالضياع.
      وبقيتُ أنا… معلّقة في الهواء.
       
      

      Pages

      authorX

      مؤلفون تلقائي

      نظام شراء