هلا بالعوالم الخفية - البارت 3
هلا بالعوالم الخفية 3
2025, هيانا المحمدي
فانتازيا
مجانا
جوا كان المكان مضيء بنور دافي، والحيطان مليانة صور غريبة لأعضاء جسم الإنسان… لكن مرسومة بطريقة رمزية، كأن القلب عامل زي زهرة، والكبد عامل زي بحر. في آخر القوضة، ست كبيرة في السن، لابسة أبيض، وشعرها أبيض ناعم، وعينيها فضية. قالت بدون ما هلا تتكلم: ـ "اتأخرتي." هلا قالت وهي بتتلفّت: ـ "إنتي مين؟ وإزاي عرفتي إني جاية؟" في كل مكان تروحه، تحس فيه عينين بتبص عليها من الظل، وفي أوقات تسمع صوت واطي بيكرر نفس الجملة: "اللي بيعالج… لازم يدفع."
...
....
هلا قالت والدم نازل من أنفها: "أنا مبقتش بس دكتورة أرواح… أنا بقيت نارهم اللي ما تنطفيش!" الخياط صرخ، والدخان حوالين جسمه اتقطع، لكن قبل ما يختفي، بص لها وقال: "إنتي فكيتي أول غرزة… فاضل سبعة… واللي فيهم… مش كلهم ناس." وفجأة، تحول الهواء… واختفى. ميّا وقعت على الأرض، قلبها يدق بسرعه، ووجها شاحب. منى لقيتها صرخت: ـ "هلا! قومي! إيه اللي حصل؟!" هلا بصت لها وقالت بهمس: "أنا بدأت الحرب يا منى… ولسه ما اكتشفتش أنا مين. من بعد المواجهة، هلا بقت أضعف بدنيًا… بس أقوى داخليًا. بدأت تحس إن فيه حاجة جواها بتتغيّر… كأنها مش بس تكتسب طاقة، لكن كمان بتفقد حاجات صغيرة في نفسها: طبع كانت بتحبه، ذكرى خفيفة… حاجة مش واضحة. في يوم وهي خارجة من الشغل، لقيت راجل واقف مستنيها قدام المحل. شاب في الثلاثينات، لابس جاكيت جلد، وشه مش غريب… كأنها شافته قبل كده، بس مش فاكرة فين. قال بنبرة هادية: ـ "هلا، عندك وقت؟ لازم نحكي شوية." هلا وقفت في حالها: ـ "إنت مين؟ وتراقبني من إمتى؟" قال: ـ "من قبل ما تلمسي أول مراية. أنا اسمي رُهَيب… وأنا كنت زيّك." هلا ضحكت بعصبية: ـ "كنت زيّي؟ يعني إيه؟ عندك برضو إيد بتنور؟" رُهيب مدّ إيده، وطلع منها خيط نور أزرق، وقال: ـ "أنا مش بس بعالج… أنا كنت أَخيط قبل ما أبقى ضد الخياط." هلا تسمرت مكانها. ـ "إنت كنت معاه؟!" قال وهو بيبص للأرض: ـ "كنت غرزة رقم ٣. بس أنا… فكيّت نفسي." هلا: ـ "ليه؟" قال: ـ "لأن الخياط مش بيهتم بالعلاج… هو بيهتم بالتحكّم. أنا كنت أعالج الناس، بس بطريقته. كنت باخد الألم… وبدله بخضوع." هلا بصت له وقالت بحدة: ـ "وإنت دلوقتي جاي تساعدني؟ بعد ما كنت بتخيط أرواح؟" رهيب قال بهدوء: ـ "لأنك الوحيدة اللي حرقتي خيط. وده معناه إنك… ممكن تحررنا كلنا. في مكان مهجور، أخدها رهيب لمخزن قديم، فتح الباب، ولقوا فيه سبعة تماثيل حجر… كل تمثال شكله مش بشري خالص. قال: ـ "دي صور رمزية للغرز السبعة. كل غرزة مربوطة بروح، وبعضهم… بيعيشوا وسطنا كأنهم بشر." هلا قالت: ـ "يعني ممكن أكون قابلت غرزة؟ ومركزتش؟" قال: ـ "الغرز الأعمق… بيكونوا فاكرين نفسهم بشر. مهمتك دلوقتى… تفكى غرزة رقم ٢." هلا: ـ "فين؟" رهيب: ـ "في جامعة القاهرة… أستاذة نفسية… بتعالج الطلاب بالكلام، بس بتخيط جواهم صمت ما بيموتش." هلا اتسعت عينيها: ـ "يعني أنا هبدأ أواجه الغرز… واحد ورا التاني؟" قال: ـ "لو ما فكيتيهمش، الخياط هيفضل يربط العالمين ببعض… وفي الآخر، مفيش لا حب ولا حرية، هيبقى في بس... خيط." المكان كان هادي، مخزن شبه مهجور، بس منور بنور خفيف جاى من مصباح متعلق في السقف. هلا كانت قاعدة على صندوق خشب، بتبص في وش رهيب، بس وشه كان مليان سكوت. قالت له بنبرة هادية: ـ "أنا ممكن أثق فيك؟ يعني… أنا مش نسيت إنك كنت شغّال مع الخياط." رهيب تنهد، وفك زرار الجاكيت، وقال: ـ "الثقة مش حاجة بتتاخد… دي بتتكوّن. بس لو عايزة تعرفي أنا ليه بقيت كده… هاحكيلك." سكت لحظة، وبعدين بص بعيد، كأن الذكرى بتفلت من لسانه: فلاش باك "أنا كان اسمي الحقيقي: ياسين. كنت طالب في كلية طب… متفوق، محبوب، بس مش حاسس بأي معنى. كنت بعالج الناس، بس ماكنتش بحس إني أنقذت حد. لحد ما في يوم، جاتلي واحدة مريضة… قالتلي: 'في خيط بيخنقني جوا، وإنت الوحيد اللي تقدر تفكّه'. كنت فاكِرها بتهلوس… بس بعد ما ماتت، لقيت ظرف على مكتبي، جواه مراية صغيرة." "المراية كانت بوابة… وشفت الخياط لأول مرة. قاللي: 'عايز تعالج الناس بجد؟ تعال معايا'. وأنا، المغرور اللي فاكر نفسه منقذ، وافقت… وتحولت من دكتور… لخياط." فلاش باك هلا كانت بتسمع وكأنها في حلم. قالت: ـ "كنت فاكره إنك قوي… بس طلع إنك كنت مكسور زيّي." رهيب ابتسم لأول مرة: ـ "أنا ما كنتش قوي… أنا كنت تايه، وزي أي تايه، أول نور شوفته… اتبعته. بس لما شُفت بنت صغيرة، كنت هخيط قلبها عشان ما تحبش تاني… إيديا وقفت. قلبي وجعني. وعرفت إن اللي باعمله مش علاج… ده قتل ببطء." هلا قالت وهي بتحط إيدها على كتفه: "كل واحد فينا عنده لحظة بيقرر فيها: يفضل مربوط… ولا يفك الغرزة بنفسه." رهيب بص لها، وعنيه كانت باينة فيها دمعة مكسوفة، وقال: ـ "أنا لو كنت شفتك من زمان… يمكن ما كنتش وصلت لكده. بس دلوقتي، هساعدك تفكي كل غرزة… حتى لو كنت أنا آخرهم." هلا وقفت وقالت: ـ "أنا هدخل الجامعة، وهواجه الغرزة رقم ٢. بس أوعدني… لو حسيت إني بضيع، تفكرني أنا مين." رهيب قال: ـ "أنا مش بس هفكرك… أنا هفكك من أي خيط تمسكك." رهيب (ياسين) واقف وسط دواير مرسومة بالطباشير، وكل دايرة فيها رمز غريب. قال ل هلا وهي داخلة: ـ "النهاردة… هتتعلمي أهم مهارة للطبيب الحقيقي: إنك تفرق بين الألم الحقيقي… واللي اتزرع جوا المريض." هلا ضيّقت عينيها وقالت: ـ "يعني فيه وجع حقيقي… ووجع مزيف؟" رهيب (ياسين) : ـ "الوجع المزيف هو اللي بيزرعه الخياط، يحطّه جوا الناس كأنه من جواهم، عشان يفضلوا مربوطين، ساكتين، ومكسورين." هلا سألته: ـ "وإزاي أفرّق؟" رهيب رسم دايرة كبيرة، وقال: ـ "هتدخلي الدايرة دي… وكل دايرة هتحطك جوّا ذكرى مش بتاعتك. إنتي لازم تكتشفي… إيه فيها مزيف، وإيه حقيقي." هلا بلعت ريقها، ودخلت الدايرة. هلا لقت نفسها طفلة، قاعدة في أوضة قديمة، وجنبها ست كبيرة بتموت. الست قالت: ـ "انسي وجعك… وأنا هرتاح." الطفلة (اللي هي هلا في الذكرى) قالت: ـ "بس إنتي ماما…!" فجأة، الست اختفت، وكل حاجة حواليها سكتت. رهيب (ياسين) صرخ من برة الدايرة: ـ "في حاجة غلط… دي مش ذاكرتك!" هلا ركّزت… وبدأت تلاحظ إن كل حاجة في الذكرى "مثالية" زيادة… ريحة الورد، لون الشمس، حتى صوت العصافير. قالت لنفسها: ـ "وجع حقيقي عمره ما بيكون ناعم كده… ده وجع مزيف!" مدّت إيدها، ولمست الحيطة، وقالت: "ارحل. والذكرى تكسرت زي إزاز، وهي وقعت على ركبتها. رهيب (ياسين) دخل وساعدها تقوم. قال: ـ "برافو… عرفتِ تميّزي الغرزة النفسية." رهيب (ياسين) كمل شرح ل هلا "اللي دخلتيه دلوقتي اسمه: مساحة العكس، فيها الخياط بيحط مشاعر مش بتاعة الشخص… بس إنتي دلوقتي، بقيتي قادرة تشوفيها، وتكشفيها… وتحطّي إصبعك على مكان الألم الحقيقي." هلا، وهي بتنظف التراب من هدومها، قالت: "يعني أنا بقيت… ماسحة قلوب؟" رهيب ضحك: ـ "لأ… إنتي بقيتي دكتورة أرواح بجد دخلت ميّا الجامعة، وسط الزحمة والصوت والضحك اللي باين… لكن مش حقيقي. رهيب كان بعيد بيراقب، لكنها لوحدها دلوقتي. وقبل ما تطلع على مكتب الدكتورة، سمعت صوت خبطة شنطة بتقع. بصّت، لقت شاب في أوائل العشرينات، شعره منكوش، ولابس كأن الحياة وقعت عليه أكتر من مرة. وقع منه كشكول، ووشه باين عليه إنه مش هنا خالص. ميّا ساعدته، وقالت بابتسامة: ـ "الكشكول وقع… بس روحك وقعت قبله، صح؟" الشاب ضحك ضحكة باهتة: ـ "واضح إني بقيت كتاب مفتوح." هلا قعدت جنبه على السور وقالت: ـ "أنا هلا… وإنت؟" قال: ـ "آدم." لحظة صمت حصلت، بعدها قال وهو باصص في الأرض: ـ "أنا حاسس إني مش قادر أتكلم… مش عارف ليه. كل لما أحب أتكلم عن اللي جوايا… لساني بيقف. كأن في حد ربطه بخيط حرير… ناعم بس خانق." هلا عرفت الإشارة فورًا. العلامة واضحة. قالت له: ـ "بتاخد محاضرات عند دكتورة نفسية هنا؟" آدم: ـ "آه… خالتي، د. نادية. ناس كتير بيحبوها… بس أنا بعد كل حصة بحس إني تايه أكتر." هلا قلبها وقع. الغرزة رقم ٢… خالته. قالت له بهدوء: ـ "إنت عمرك قلتلها الكلام ده؟" آدم ضحك بس من غير روح: ـ "جربت… كل مرة ببص في عينيها، بحس إني غلطان حتى لو معايا الدليل." قالت له: ـ "أنا ممكن أساعدك… بس هطلب منك حاجة." قال: ـ "إيه؟" قالت: ـ "لما أوصل لخالتك… وتبدأ تحس الدنيا بتتهز… ما تخافش. لإنك هتتكلم تاني، وكل الكلام اللي جواك… هيخرج، حتى لو بصوت البكاء." دخلت ميّا المكتب… المكان مش شبه مكتب أستاذة جامعية. الحوائط سادة، لكن فيها مرايات صغيرة متناثرة كأنها عينين بتتفرج… وورا المكتب، قعدة "هي"، بكل هيبتها: الدكتورة نادية… في الخمسينات، لبسها كلاسيكي شيك، شعرها رمادي مرتب، وعينيها باردة… باردة لدرجة إنها ما تتحبش… لكنها تتطاع. قالت وهي بتبتسم ببرود: ـ "اتفضلي… هلا، صح؟ سمعت إنك مهتمة بالعلاج النفسي." هلا بصّت حواليها وقالت: ـ "أكيد. بس أنا مهتمة أكتر باللي ما بيتقالش في الجلسة… اللي بيتخيط جوا الناس." نادية ابتسمت ابتسامة بلا معنى، وقالت: ـ "جميل. طب نجرب جلسة صغيرة؟ أنا بسألك… وإنتِ تجاوبيني. ومع كل إجابة… هنقرب من الحقيقة." هلا قالت وهي بتقفل الباب وراها: ـ "بس خلي بالك… أنا كمان بشوف الحقيقة، حتى لو مخيطة بخيط دهب." د/ نادية كتبت حاجة على نوت صغيرة، وسألت: "لما بتحسي إنك تعبانة… بتلومي نفسك؟ ولا بتدّوّري على حد تلوميه؟" هلا ردت بهدوء: ـ "بلمس التعب… وبسأله: إنت ملكي؟ ولا حد زرعك جوايا؟" نادية رمشت ببطء. الرد مش مألوف. سألت تاني: "لو كنتي طفلة تانية… وقابلتي نفسك الكبيرة، هتحضنيها؟ ولا تهربي منها؟" هلا قالت: ـ "هشدها من وشها وأقول لها: ما تبقيش جبانة تاني." صوت البيانو وراهم علي فجأة. وإزاز المرايا الصغيرة حوالين الأوضة بدأ يعمل زي الرعشة. نادية قامت بهدوء، وقربت من هلا. قالت بصوت ناعم… بس فيه كهربا: "إنتِ عارفة إني شايفة اللي جواكي؟ شايفة الخيط اللي بيجبرك تحسي… وتحاولي تصلّحي؟" هلا بصتلها بعين صاحية: ـ "وأنا شايفة الوشم اللي حوالين رقبتك… ده مش إكسسوار. ده توقيع الخياط. فجأة، هلا مدت إيدها ولمست حافة المكتب… وسمعت صوت آدم، جاي من بعيد… صوته الداخلي، المحبوس: "أنا مش فاشل… أنا كنت بصدقها. كنت بظن إن خالتي بتساعدني، بس كل مرة أحكي… كنت برجع أسكت أكتر." صوت نادية تغيّر، بقى مبحوح: "سكّتي. مش من حقك تسمعي أصواتهم!" هلا وقفت وقالت بنبرة أقوى: "أنا مش بس بسمعهم… أنا بفكّهم من الخيط اللي إنتِ زرعاه جواهم." نادية صرخت، وكل المرايات حوالين الأوضة اتفتحت فجأة، طلعت منها صور لطلاب كتير، قاعدين في جلسات، ووشوشهم باهتة… ساكتين… مفرغين من الكلام. رهيب (ياسين) دخل فجأة من الباب، وقال: