صدمة ما بعد الحرب - رواية عسكرية
صدمة ما بعد الحرب
2025, تاليا جوزيف
اجتماعية
مجانا
جندي عائد من حرب العراق، يعاني من صدمة ما بعد الحرب وجروح جسدية ونفسية عميقة. يلتقي بفتاة عمياء في مقهى، وتنشأ بينهما علاقة صداقة غير متوقعة. يجد الجندي في هذه الفتاة شخصًا يفهمه ويتقبله كما هو، بينما تجد هي فيه رفيقًا يقدرها ويحترمها. تتناول الرواية مواضيع الحرب والصدمة والعلاقات الإنسانية والتحديات التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقة.
كونور رايت
جندي سابق يعاني من صدمة ما بعد الحرب، ويحاول التأقلم مع حياته الجديدة بعد الإصابات التي تعرض لها. يمثل كونور الجانب المظلم من الحرب وتأثيرها المدمر على الأفراد.أوليفيا هاريس
فتاة عمياء تتمتع بشخصية قوية ومستقلة، وتسعى لتحقيق ذاتها رغم التحديات التي تواجهها. تمثل أوليفيا جانب الأمل والتحدي في مواجهة الصعاب.
إهداء: لِكِلّ مين حَسّ حالو ضايع، لِكِلّ مين بعدو عم يدوّر. اقتباس: "إنك تحبّ أو تكون حبيت، هيدا بيكفي. ما في لؤلؤة تانية تنوجد بتعريجات الحياة المعتمة." — فيكتور هوغو، البؤساء من ستّ شهور، كونور رايت اندعس تحت أطنان من الركام والرماد، رياتو مخنوقين بالدخان، أطرافو مكسّرين، متفجّرين للعدم. اليوم، كلّ شي بيحسّو كأنو حلم مكسّر بس واضح. قاعد على كرسي صغير ومقطّع بغرفة ضوّا صفرا بتزعّج وريحتها معقّمات بايخة، مقابيلو وصفة دوا تانية ما بتفيد لابسة بالطو أبيض. "كيف عم تحسّ حالك اليوم؟" "متل الأسبوع الماضي، يمكن." وصفة الدوا بتشخبط شي على ورقة. قائمة الأسئلة المعتادة بتكمل. نوم، مزاج، شهية. وجع على مقياس من 1 لـ 10 قبل الدوا، كم حبة باليوم، كم مرة؟ كونور ما عندو طاقة يكذب هالمرة. "ستّة أو سبعة من عشرة، يمكن. مبارح، أخدت شي خمس حبوب." جبين وصفة الدوا بيعقد بقلّة راحة مخبّاية بشكل سيء. "حسب فحصك الأخير يا كونور، جروحك شفيت منيح." عيونو نازلين على المكتب، بيتجنّبوا وش كونور. "الوجع اللي عم تحسّ فيه على الأغلب نفسي. بدي اقترح عليك كم خيار جديد لنبلّش نخففلك الأفيون. أنا قلقان إنو ما عاد عم يعمل مفعولو منيح." ركبتو عم تهزّ؛ لمحة انزعاج. كان عارف إنو هيدا جاي؛ كان متوقّع. "مش براسي. ما فيك تعطيني حبوب زيادة يا دكتور؟" الدكتور، اللي فجأة قرر يصير أكتر من مجرد وصفة دوا، ابتسم ابتسامة ساخرة. "مش ممكن على المدى الطويل يا كونور. جسمك عم يصير عندو تحمّل للهيدروكودون. فينا نجرب خيارات تانية لتخفيف الوجع، متل المساج أو العلاج الكهربائي." هزّ راسو لحالو، مبسوط على ما يبدو بهالفكرة. "الزولوفت منيح، ما رح نقرّب عليه. وبما إنك قلتلي إنو ما لقيتو مفيد المرة الماضية، بدي منك ترجع تشوف أخصائي نفسي ليساعدك تتأقلم مع—" "أنا منيح. أنا منيح غير الوجع. الدوا عم يساعد." الدكتور مش مقتنع. "طيب، خلينا نعمل اتفاق. بخلي البنات بالاستقبال يرتّبولك موعد مع أخصائي نفسي. بتشوفهن مرة بالأسبوع، وأنا بوقف تخفيف وصفة الفيكودين تبعك مؤقتًا." "دكتور نفسي؟" "أخصائي نفسي. نفس المبنى، حتى. كم طابق لتحت. يمكن يعطوك موعد قبل هيدا، بتوفّر مشوارين." أخصائي نفسي. يا سلام. دكتور بلا وصفة دوا. برنامج تخفيف الوجع بالطابق السادس بمستشفى راولينغز للتأهيل. نهار خميس مشمس، نص أيار. كونور بيترك عيادة الدكتور ومعو وصفة جديدة مطوية بجيبتو الخلفي. رعشة بتحكي بتزحف على الجانب الأيسر من جسمو؛ الظاهر إنو آخر جرعة قبل الغدا بلّشت تروح مفعولها. الناس بيبحلقوا فيه كم ثانية زيادة وهو عم يمشي. بيحس بصدمتن، بانزعاجن، حتى لو فاقوا من حالن وتظاهروا إنو كل شي تمام. خمسة شهور ونص من وقت ما ترك العناية المركزة، تلات شهور من وقت ما انتقل من بيت أمو لشقة جديدة، شهرين ونص من وقت ما بلّش يجبر حالو يطلع على العالم. بالسوبرماركت، بالبنك، بالليجيون، مكتب شؤون المحاربين القدامى. حتى وهو عم يمشي بالشارع اللعين، الناس بيحوّلوا نظراتن وبيبعدوا عن طريقو. كأنو فضائي، كأنو وحش. خمسة وعشرين سنة، عزّ شبابو، مشلّح ومرفوض وواجعو. وغضبان. دايماً، بغضب مرهق. بيطلع الدرج ليحرق شوية طاقة، ليذكّر حالو إنو على الأقل عندو رجلين شغّالين. حتى لو عضلة ساقو اليسرى بتحب تتشنّج عليه أحيانًا، حتى لو أصابع إيدو اليسرى بيرجفوا شوي وهو عم يمشي. بأسفل الدرج، صدمة خدر مفاجئة برجلو اليسرى بتخلّيه يوقف لحظة بائسة، ماسك بالدرابزين. جسم بيخبط فيه بلا مبالاة، والإحباط بيشتعل بحلقو. "يا زلمة، ما بتشوف وين عم تمشي؟" لما عيونو بيستوعبوا، الغضب بيتحوّل لخجل. عصا بيضا رفيعة بتدقّ على البلاط. البنت بتزمّ شفايفها وبتصرّخ: "آسفة. أنا عميا." بيتهيّألو إنو سمعها عم تتمتم بمرارة تحت أنفها، كأنو مش واضح. آخ، يا خرا. "يا خرا. آسف. عن جد، ما كنت—" هي أصلاً بلشت تمشي بعيد عنو، أصابعها عم تمدّ لتتحسّس مقبض الباب، وعم تدفشو لقدام لتفتحو. لمح لمعة عيونها الزرقاء الكريستالية، واضحة وحادة. لولا العصا، ما كان عرف. رجلو المتقلّبة المزاج اللي نسيها بالكامل، بلّش يمشي وراها بسرعة، عم يحاول يلحقها. هي سريعة بشكل ملحوظ. "يا بنت" نادى عليها وهو عم يمشي جنبها. المبنى الضخم المصنوع من الطوب البرتقالي والإسمنت عم يختفي وراهم. "يا إلهي، آسف. ما كان لازم—" "عادي." نفضتو ببرود، عصاها عم تضرب على الإسمنت، خطواتها سلسة وسريعة. شكلها بتعرف وين رايحة. راسها مرفوع، فمها خط مستقيم. شعرها بني، وعم يلمع بالشمس. "لأ، مش عادي" اعترف، عم يخبص بشعرو الأسود القصير من ورا راسو. وقفت قدام موقف الباص وتحسّست ذراع المقعد قبل ما تقعد. قعد جنبها. خدودها بعدهن حمر من الغضب، وبمكان ما براسو المخربط، لاحظ إنها حلوة. معصبة، بس حلوة. ما حتى التفتت عليه. "المرة الجاية بس تذكّر، ما بعرف. شوف قبل ما تحكي." آخ. عبّس. أو نص وشّو اليمين عبّس، على كل حال. "إيه، هيدا... نصيحة منيحة." بسرعة حركة من إيديها، طبقت عصاها وحطتها بشنطتها الكتان الزرقاء الغامقة. أم ماسكة ولد صغير بإيدو. الثنائي عم يركضوا على الرصيف قدامهم، عم يمرّوا بموقف الباص. "ماما، شو صار بوش هيدا الزلمة—" "شش، اسكت" همست، عم تشدّو وراها بسرعة. "ما تكون قليل ذوق." تجاهل الموضوع، أو حاول على الأقل. وحش، هيدا اللي بيشوفوه لما بيتطلعوا عليه. والظاهر إنو عم يتحول لواحد. "شوفي، أنا—" عم يمسح إيديه على جينزاتو، عم يحاول يلاقي شي يحكيه. المحادثة المتحضّرة قليلة هالأيام؛ ما عاد متعود. "فيني عوضك بشي أو شي متل هيك؟ عن جد. عزمك على قهوة، أو..." عم تدور بشنطتها على موبايلها، عم تفكّ سماعاتها. عند اقتراحو، وقفت، وتعابير وجها خفّت شوي. "لازم ألحق الباص تبعي..." "سيارتي بعدا واقفة ورا، ورا مركز التأهيل." يا سلام عليك يا زلمة. "يعني. أو يمكن مرة تانية، أو..." بالرغم من إنو زلمة وقح وأهبل، لمحة ابتسامة ظهرت على ملامحها الرقيقة. عم يتفرج عليها وهي عم تحط السماعة بإذنها وعم تكبس على موبايلها. صوت آلي مكتوم عم يقول شي من السماعة. هزّت كتفها النحيل وفاجأتو لما وافقت: "يمكن عندي شوية وقت." "امم. منيح." المقهى الوحيد اللي بيعرفو هو اللي جنب شقتو، وهيدا على الطرف التاني من راولينغز، بس يمكن فيو بس— "في كافيه، كم بلوك من هنيك." أشرت على يمينها وقامت من المقعد. "حلو. امم... أنا كونور، على فكرة." "أوليفيا." سحبت نظارات شمسية أنيقة من شنطتها وحطتهم. بيكره لما الناس بيبحلقوا، بس هلأ عم يذكّر حالو ما يعمل نفس الشي. شكلها طبيعية كتير. وكفوءة. ومن الواضح إنو سخافة إنو افترض غير هيك تلقائياً، بس... "فيني أمسك إيدك؟" "آه، إيه. إيه، أكيد." "شكراً. أنا بكره العصا شوي، لهيك..." مدّت إيدها ولمست ساعدو بحذر. لما حسّت بمكانو بالضبط، مسكت ذراعو اليمين بلطف، فوق الكوع مباشرةً. أصابعها باردة لما مسكت بجلدو، وانتبه برجفة إنو صارلو وقت طويل من وقت ما حدا لمسو لسبب غير طبي. "أنا، امم..." "فيك تمشي عادي" شرحت. "بس مش بسرعة كتير." هزّ راسو بس تذكّر إنها ما بتشوفو. بلشوا يمشوا. الشارع اللي جنبهم بعدو هادي نسبياً بهالظهرية الباكرة. صوت السيارات البطيء، حكّة الإطارات على الطريق. "ليش بتكرهيها؟ عصاتك، يعني." "بالأغلب لأنو اشتقت لكلبي." في لمحة حنين بصوتها. "لولا. كانت عندي من وقت ما كان عمري خمسطعش. ماتت من شهر." "آسف." "كان عندها سرطان، لهيك كانت عم تعاني شوي بالأخير. كان وقتها، يمكن. بس اشتقتلها." "شو نوع كلب كانت؟" "لابرادور ريتريفر." بعد صمت، أضافت بنبرة أخف: "آه، كمان ما بحب أستخدم العصا لأنها بتخوّف الناس شوي." ضحك شوي. إيه، بعرف الشعور. الجو معتدل، الربيع عم يتحوّل لصيف بالهوا النقي. العشب أخضر، والسما زرقاء. أصص زهور ملونة معلقة على أعمدة الإنارة على الرصيف. دفء الشمس على وش كونور فاتر، مش متل حرارة الصحراء العراقية اللي تعوّد عليها بالكم سنة الماضية. "طيب" سألت بشكل عفوي، "عندك عادة تصرخ على الناس المعاقين، ولا بس عم تقضي نهار زفت؟" حكّ قفا رقبتو بإيدو الحرة. الحقيقة هي إنو كل يوم هو نهار زفت. "إيه، أنا، امم. ما كان أحسن لحظاتي." وصلوا لتقاطع طرق. "ميلنر، صح؟" كونور طلع على إشارة الشارع. "إيه." "لازم نلف يمين." لثانية، تساءل إذا عن جد ما بتشوف شي، لأنو شكلها بتشوف. أنت غبي. مشوا بصمت. ما عندو فكرة شو يقول. يمكن لأنها عميا، يمكن لأنها غريبة، يمكن لأنها بنت. أو يمكن لأنها إنسان وما عم يعمل علاقات اجتماعية كتير مؤخراً. "إنت... بالجامعة؟ بتشتغل؟" هيدا سؤال طبيعي، صح؟ "تخرجت جديد. عملت بكالوريوس من جامعة راولينغز." هيك بتصير شي 21 سنة، 22؟ "شو درستِ؟" "تاريخ مع مرتبة الشرف. وإنت؟" بلع ريقو. تمو ناشف. قاعد بالبيت أغلب الوقت، عايش على معونة العجز. "امم. أنا ملازم بالقوات المسلحة الكندية." "آه، حلو. ما بعرف شي عن الجيش، إذا بدي كون صريح. إنت يعني... بإجازة، أو...؟" "طلعت من الخدمة الفعلية. تسريح طبي." لحسن الحظ، ظهرت مظلة قدامهم—عذر مناسب ليوقف هالمحادثة هون. "ذا ديلي غرايند. وصلنا، على ما أظن." "بحب هالمكان" قالت لما فتح الباب. "بيعملوا قراص قرفة كتير طيبين." "آه، مرحبا أوليفيا!" نادت وحدة من اللي بيشتغلوا على البار باتجاههم. "متل العادة؟" "مرحبا كارلا. إيه، لو سمحتي." قالت لكونور: "في طاولة على اليسار، على الحيط، تحت لوحة." حدد مكان اللوحة، قطعة فنية تجريدية مخططة بالذهبي والأزرق المخضر، واتجهوا مع بعض باتجاه طاولتها المفضلة. أطراف أصابعها لمست سطح الطاولة، عم تدور على ظهر كرسي. قعدت على كرسيها بسهولة، واعترف لحالو إنو بيلاقيها بتجنن لما بيتفرج عليها. "امم، لحظة؟ رح روح أطلب." الغرفة متوسطة الحجم بس دافئة. شبابيك كبيرة داخل منها الضو، طاولات بكل الأحجام، واجهة زجاجية مليانة مخبوزات. وقت غدا الزحمة خلص، لهيك الكافيه فاضي تقريباً، وحس حالو أقل وعي بذاتو. "مرحبا" قالت كارلا الشقرا، اللي بتشتغل على البار. "أوليفيا بدها لاتيه وسط وقرص قرفة، مدفى. شو فيني جيبلك؟" "بدي نفس الشي، لو سمحتي." "اختيار ممتاز." طلع ورقة عشرين خضرا مجعلكة من محفظتو. "قراص القرفة من عنا" ابتسمت. "يعني بصير تمنهم تمانية وأربعين." بنت عميا وخسران مشوه— حالة خيرية. هيدا الشي بيزعجو، متل أغلب الأشياء هالأيام، بس حاول يذكّر حالو إنو نيتها منيحة. "شكراً." "رح وصلهن لعندكم بعد شوي." لما قعد مقابل أوليفيا على الطاولة، انتبه إنو نظاراتها الشمسية حطتهم على جنب. طفت موبايلها وحطتو مقلوب على سطح الطاولة الخشبي. ما قدر يمنع حالو يتفرج عليها. نمشات على جوانب أنفها. وجها رقيق بس حاد. شوية روج زهري خفيف بيخلي عيونها تلمع أكتر. سأل حالو كيف بتحط مكياجها إذا ما بتشوف حالها بالمراية، أو كيف بتعرف شو لون تيابها أو إذا شعرها مسشور صح، أو... "كنت عم تقول شي عن... تسريح طبي، صح؟ إنت منيح؟ شو صار؟" الظاهر إنو رح يفوتوا بالموضوع دغري. ماشي. "قصة طويلة." هزت راسها. "خاص؟ آسفة." ضحكت على حالها بصوت واطي. "أنا فاشلة بقراءة تعابير الوش، طبعاً، لهيك..." آه، يعني بتضحك. عضّ على باطن خدّو، عم يفكر. حكى نفس القصة كتير مرات، لأطباء نفسيين وعيلتو ومراسلين. تعب منها. قعدت عم تستنى. ما تطلعت عليه بغرابة. ما تطلعت على الجلد المتندب والمتجعد اللي مغطي نص وشو كأنو شي مخلوق غريب، شي حيوان نادر بدل ما يكون إنسان. "كنت متمركز بالعراق، بمهمة إنسانية. وحدتي كلها انحصرت بتفجير بالموصل." إذا غمض عيونو، رح يشم ريحة البنزين واللحم المتفحم، رح يسمع صوت الانفجار المدوي مرة تانية. خلّى عيونو مفتوحين منيح. "هيدا الشي فظيع. آسفة." اللي بتشتغل على البار حطت صينية، نزلت كوبين قهوة رغوية وقرصين قرفة ضخمين ذهبيين، مغرقين بصوص كريمي ومرشوشين بالجوز. "شكراً كارلا." "استمتعوا!" أصابعها تحركت لقدام لتلف حول مقبض الكوب. "مررلي سكر أسمر، لو سمحت؟" إيدو نطت دغري باتجاه مجموعة الأكياس الصغيرة الموجودة بحاوية على الحيط. "وحدة بس؟" "إيه، شكراً." مدت كفها، وحط الكيس الورقي الصغير بإيدها. تفرج عليها باهتمام وهي عم تفتحو وتستخدم أصابعها لتحدد مكان معلقتها. "لحظة. الموصل. هيدا كان... بداية كانون الأول؟ بتذكر سمعت عنو بالأخبار." "إيه." الكل سمع عنو. الكل تظاهر إنو مهتم. نص دستة جنود ماتوا، وواحد بس طلع عايش. مأساة. خسارة للوطن. بس بيمروا جنبو بالشارع، ووجودو إهانة لراحة بالهم، لطبيعيتهم، لوضعهم الحالي. دولسي إت ديكوروم إست برو باتريا موري. يا لها من كمية هراء كاملة. أوليفيا هاريس بتحب تفكر إنها منيحة بقراءة الناس. يعني، بكل الأحوال. الزلمة اللي قاعد مقابلها، مثلاً، عندو صوت واطي وخشن شوي. انطباعها الأول (بعد الانطباع الأول اللي كان فيه وقح) كان إنو صوتو طويل. وهيدا الشي تأكد لما مسكت ذراعو—صلب وعضلي، خلّونا نلاحظ—وسمعت هالصوت الواطي والخشن طالع من فوق. كمان هادي، أو محرج، أو يمكن الاتنين. أو يمكن، أكتر من يمكن، ما قابل شخص أعمى قبل وما بيعرف كيف يتصرف. نموذجي. كانت محتاجة لهالدفعة من الكافيين بعد ما حضرت جلسة دعم جماعي تانية بتجنن بمستشفى التأهيل. عم تحضر هالجلسات (بالإجبار) من شي سبع سنين. بصراحة، تعبت من سماع أشخاص معاقين تانيين عم يتذمروا من صعوبة كونهم أشخاص معاقين (آسفة، أشخاص ذوي إعاقة)، بس طبعاً أهلها بيصروا، لأنو "دعم الأقران قيّم بشكل لا يصدق!" تفو. على كل حال. العراق. انفجار. ما بيبدو إنو بدو يحكي عن الموضوع. فهمت. "إنت من راولينغز؟" "إيه، تربيت هون. وإنتِ؟" "نفس الشي." على يمينها، بتسمع صوت طاحونة القهوة. الباب عم ينفتح، صوت خطوات تقيلة، صوت ست كبيرة على البار. "أي مدرسة ثانوية رحت؟ أنا رحت مدرسة راولينغز الثانوية، لهيك إذا بتقول فيرفيلد للأسف ما رح نكون أصحاب..." راولينغز، ألبرتا. جنوب غرب كالجاري، عدد سكانها 100 ألف. في خمس مدارس ثانوية، بس مدرسة راولينغز الثانوية وفيرفيلد هن الأكبر، وعداوتهم مشهورة. طلع منو ضحكة صغيرة، واطية، خشنة. متل ملمس ورق الصنفرة الخشن بس ناعم، بنفس الوقت. ورق صنفرة وكريمة. واطي وخشن. يا إلهي، جابت سيرة هيدا الشي؟ "رحت كلوفرديل. قسم فرنسي." عم يحكي مع حالو، نفخ: "يا إلهي، صار وقت طويل." "كم عمرك؟ استنى، خليني خمن." جودة الصوت، العضلات. "نص أو أواخر العشرينات." خفة على طرف صوتو، كأنو عم يبتسم، حتى لو شوي صغيرة. "خمسة وعشرين. إنتِ... كم، اتنين وعشرين؟" "صح. بس إنت فيك تشوفني، لهيك عندك ميزة غير عادلة." لقت شوكتها على يمين الصحن وعلى يسار الكوب. كارلا والتانيين دايماً بيحرصوا يتركوا الأشياء بنفس المكان كل مرة. "بس عموماً أنا منيحة بالتخمين، لهيك..." عم تحاول تكون مهذبة قدر الإمكان، بلشت تقطع قطع من المعجنات الدافئة واللزجة وترفع لقمة لتذوب بتمها. "إيه؟ شو فيك تخمني عني كمان؟" في صوت رنة معدنية لسكاكين على سيراميك، لهيك بتعرف إنو عم ياكل قرص القرفة تبعو كمان. استعد لتنبهر. "إنت طويل. على الأقل ست أقدام." "ستة قدم وواحد إنش." همهمة إعجاب. "مش سيء." يعني عندو حس فكاهة شوي. يا ريت. امم، ريحة القهوة المحمصة من مفضلاتها. ريحة الأفران، السكر المكرمل، تدفق ضوء الشمس اللي عم يتسرب من الشبابيك على جلدها. "وإنت... مش ولد وحيد." "صح كمان." صوت حك خفيف مكتوم، أطراف أصابعو عم تلمس شوية لحية. "مش متأكد كيف عرفتِ هيدا الشي، بس..." "لأ، هيدا كان تخمين. أنا ولد وحيد، بس مش كتير ناس هيك." أوليفيا متأكدة إنو ابتسامتو صارت أعرض شوي. يمكن. "عندي أخت أصغر مني" قال. "عمرها... تسعتاعش؟ عم تدرس تاريخ فنون بجامعة كالجاري." "يا إلهي. أخدت حصة تاريخ فنون مرة. كانت غلطة أكيد. ما كان عندي فكرة شو عم يحكوا." ما في ضحك. يا زلمة. الناس بيتضايقوا كتير لما بتعمل نكت عن العمى، حتى لو النكت بتجنن. "طيب، سؤال. يا خرا، إذا هيدا وقح، قلي اسكت، بس... إنت... بتشوف شي؟ ولا شي بالمرة؟ كيف بتشتغل؟" "بتختلف من شخص للتاني. عندي تشوه خلقي بالعصب البصري، لهيك ما بشوف شي وما شفت شي بحياتي. صفر إدراك للضوء." سحبت منديل اللي تحت الصحن، عم تمسح الكريمة اللزجة من أطراف أصابعها. "بس بعرف ناس فقدوا بصرهم تدريجياً. وفي ناس بعد بيقدروا يميزوا، متل، تغييرات بالضوء وهيك." في صمت أطول من العادة. شمخت. "إنت عم تهز راسك أو شي متل هيك، لأنو بتعرف ما عندي طريقة أعرف، لهيك..." سعلة مكتومة بمنديل أو بإيدو. بتراهن إذا مدت إيدها عبر الطاولة، رح تحس بحرارة خدودو من الإحراج. كيوت. "آسف، عن جد. عادة." "عم بمزح معك، مش قصة كبيرة. الناس بيعملوا هيك دايماً." "بس أكيد هالشي بيزعج. بيزعجك لما الناس..." بيبدو إنو عم يكافح ليلخص اللي بيقصدو بكلمات، بس فهمت شو عم يقصد. مرت بهالمرحلة، لما الناس اللي بيشوفوا كانوا بيزعجوا أمها. هالأيام، بتحاول تكون أهدى بالموضوع. "ما بعرف. الناس... ناس. غالباً مش مراعيين كتير، بس بفهم شوي. كلنا بنوقع بعاداتنا، صح؟" هزت كتفها. "مستحيل نفهم شو عم يمرق شخص تاني. فينا نحاول، يمكن، بس يعني..." "لازم نحاول." صوتو حاسم. "أكتر شي بيعصبني إنو الناس... ما بعرف. ما بيحاولوا. ما بيتعبوا حالهم." آه إيه، عندو قصة. وهي فضولية بطبيعتها؛ العجلات عم تدور بسرعة. عرج خفيف لما مشي، شي الو علاقة بمستشفى التأهيل، هالانفجار المجنون بالعراق اللي تصدر العناوين لأسابيع، قصة التسريح الطبي كلها. "كونور، فيني أسأل؟ قديش كان الوضع سيء؟" صمت تاني، بس هالمرة بتعرف مش لأنو عم يهز راسو أو عم يصافح أو عم يوقع بلغة الإشارة الأميركية، أو وحدة من مليارات الإيماءات الجسدية اللي ما بتقدر تكتشفها. هيدا نوع الصمت اللي بتقدر تحسو، النوع اللي أثقل وأقسى، متل لما بتشد رباط مطاطي كتير لدرجة إنو على وشك ينقطع. حفيف قماش، عم يغير وضعيتو على الكرسي. صوت ريق عم يبلع. "سيء. أسوأ من سيء." صوت أخشن وأغلظ. حاولت تبتسم ابتسامة متعاطفة وحستها عم تشد طرف فمها. "آسفة." سمعتو عم يمضغ قرص القرفة تبعو ببطء. "كيف عم تمشي أمورك؟" ترك السؤال معلق بالهوا قبل ما يعطي جواب مقتضب. "منيحة." ها. "بصدقك كتير." همهم بصوت واطي، متل العابس، وتتساءل إذا عم تبالغ، إذا زادتها شوي. الرجوع للوراء صعب لما ما بتقدر تشوف كيف الناس عم يتفاعلوا باللحظة. إذا بدها تكون صريحة مع حالها، هيدا أكتر شي بتخجل منو، أكتر شي بتقلق منو. عم تبعد الناس. لما بعدو ما حكى شي، قالت بهدوء: "عادي ما تكون منيح. مش لازم... تقول هيك بس لأنو هالشي بيمنع الناس يتضايقوا." صوت أنفاسو مسموع، منتظم وثابت. "يمكن بعدني... عم حاول أفهم شو يعني طبيعي. ما في شي بيحس... صح. ما بعرف كيف أشرح هالشي حتى." شي بصوتو بيخلي صدرها يضيق بشعور. حاولت تمشي بحذر أكتر هالمرة وحاولت تختار كلماتها بعناية أكتر. "طبعاً مش نفس الشي، بس. بفهم هالشعور... بعدم الانتماء. أو الشعور بالانفصال عن باقي العالم، بطريقة ما." في نبرة صوتو شي متل المي، خشنة أكتر. "إيه، هيك بحس." لحظات عاطفية مؤثرة مع غرباء عمليين هي الفرصة المثالية للكون ليعترض. موبايل أوليفيا بلش يهز على الطاولة. يا إلهي. نغمة رنين أمها؛ كانت بتعرف إنو لازم تتصل عليها بوقت ما. شعور بالانزعاج اجتاحها، خطفت الجهاز، كبست إصبعها على أسفل اليمين من الشاشة. بجفاء، جاوبت: "مرحبا ماما. شو في؟" "بس عم أتطمن عليكي يا حبيبتي. الجلسة خلصت من شي ساعة تقريباً، صح؟ كل شي تمام؟" أوليفيا نفخت الهوا. أمها لطيفة. بتقلق. نيتها منيحة. وأوليفيا بتعرف هالشي، بس هالشي بيجننها. "بالحقيقة" قالت بحسم، "تم اختطافي. لهيك ما رجعت عالبيت لهلأ." بعدت الموبايل عن إذنها وقالت: "آه، هيدا هو. الخاطف تبعي بدو يحكي معك عن الفدية." دفعت موبايلها لقدام ليتهدل بمكان ما بوسط الطاولة، باتجاه كونور. في صوت أجش، كأنو عم يختنق بشي. يا إلهي، كانت بتحب تشوف تعابير وشو بهاللحظة... "امم..." هزت الموبايل باتجاهو لحتى أخدو منها بتردد. زمّت شفايفها لتمنع حالها من الضحك، عم تسمعو وهو عم يتخبط: "امم. بوعدك ما خطفتها يا سيدتي." تلعثم، عم يدور على شي يحكيه، قبل ما يكمل: "بس... عم نشرب قهوة." بعدين، مجموعة أصابع عم تسحب معصمها بلطف، عم ترجع الموبايل بإيدها كأنو شي حارق ومؤذي. ضحكت ورفعتو لأذنها. "رح أرجع عالبيت قبل العشا، بوعدك." صوت أمها متردد بس فضولي. عم تهمس: "هيدا... شب؟" "لازم-روح-بشوفك-بحبك" قالت بسرعة بنفس واحد قبل ما تتخبط لتسكر الموبايل. إيه، إيه، عم تحمر، بتحس بهالشي. من الفرحة، من المرح، مش لأنو في فراشات عم تدغدغ بمعدتها، مش لأنو معصمها بعدو عم يرتجف من أثر لمستو الخشنة. بعد ما أخدت ثانية لتلملم حالها، اعتذرت: "آسفة. أمي بس... محمية زيادة عن اللزوم. مهما طلبت منها تخفف، ما بتقدر، كأنو هالشي ضد طبيعتها أو شي هيك." "امم. إيه، عن جد ما كنت متوقع هيك." بس بعدين عم يضحك، بخشونة، تحت أنفاسو، وهي عم تضحك كمان. ماسكة الكوب بإيديها التنين، أخدت رشفة طويلة، بس ما خففت كتير من حرارة خدودها. قالت بثقة: "رح بلش دراسات عليا بالخريف، وعم حاول أقنع أهلي يخلوني انقل لسكن الطلاب. يكون عندي مكان خاص فيني، بتعرف." بيفكروا إنها فكرة بشعة. "بجامعة راولينغز؟" "إيه. يعني، مش إنو ما فينا ندفع. وحدة من مزايا كوني عميا هي إني بحصل على منح دراسية ومنح من الحكومة وهيك." يمكن هالشي وعناق كلب مرشد هن الميزات الوحيدة، بس بتعرف. "بفكر رح يكون ممتع أخيراً أكون لحالي." أهلها عن جد ما بيفهموا. ما بيفهموا إنها بدها تكون مستقلة، لمرة وحدة. بتقدر تعملها، بتعرف إنها بتقدر، بس بعدن عم يدللوها. الانتقال هو على رأس قائمتها لـ "أخيراً كون شخص بالغ"، متعادل مع ممارسة الجنس وكونها بعلاقة. بصراحة، بهالوقت، الانتقال بيبدو الخيار الأقرب للتحقيق بالنسبة إلها. بس، امم، هيدا نقاش لوقت تاني. لاحظت إنو بياخد وقت ليجاوب لما بتقول شي، كأنو بيكافح ليلاقي شو يقول. "عم تفكري تنتقلي مع صديقة، أو لحالك، أو...؟" "صديقتي المقربة زوي بتقول يمكن بدها تلاقي مكان سوا. بس هي برا البلد هلأ. برحلة تبادل لفرنسا." هالشي بيساهم بإنو أوليفيا عم تحس... بالوحدة مؤخراً. لولا راحت، زوي بالطرف التاني من العالم. خلينا نقول إنو لعب سكرابل برايل مع أهلها بيفقد سحرو بعد فترة. أوليفيا شربت آخر قطرات القهوة والرغوة وجمعت بقايا الحلوى السكرية. لتشوف الوقت، كبست على ساعتها وسمعت صوت رجل آلي (اللي سمته كرونوس—كرو-كرو أو ببساطة كرو لأسباب واضحة) عم يخبرها إنو الساعة تلاتة بعد الظهر. مقابلها، كونور نظف حلقو. "امم، عندك شي، امم، على..." يا إلهي. هو من النوع اللي بيقول شي فعلاً بدل ما يخليها تمشي بقية النهار وهي ما عندها فكرة. (خبر عاجل يا ناس، ما بتقدر تتفقد حالها بالمراية.) "على وشي؟" مسكت منديل، قربتو على فمها، ومسحت زوايا شفايفها. "لأ، امم، فوق... امم..." عم يحرك حالو. "هون..." حست بالملمس الورقي الناعم للمنديل، لمسة صغيرة لجلد عم تلامس يسار أنفها. حمرت أكتر. تفو، يا جلد فاتح. "امم، شكراً." "أكيد." عم تمضغ شفتها وبتسجل ملاحظة داخلية تشتري مرطب شفاه زيادة. "امم، الباص الجاي بعد كم دقيقة. يمكن لازم روح..." "آه، إيه. إيه، منيح." لوحت بإيدها باتجاه صندوق الدفع، وخلّاها تمسك ذراعو مرة تانية. لابس تي شيرت؛ طرف الكم القطني عم يلامس إبهامها. الشعر الناعم على جلدو العاري عم يدغدغ كفها، وحستو دافي وصلب. وريحتو منيحة كمان. ذكورية، متل لمحة غامقة من الكولونيا، تراب وبهارات، لدغة ملح. وهن عم يرجعوا باتجاه المستشفى، بتعرف إنو نهار مشمس بسبب أشعة الحرارة اللي عم تغمر وشها، على طول ذراعيها، ظهر إيديها. نسيم بالهوا عم يداعب شعرها؛ الرصيف عم يحك تحت حذائها. ورق الشجر عم يخشخش على الأشجار، وحركة المرور أعلى من لما كانوا رايحين عالكافيه. ريحة العشب المقطوع الطازج الخفيفة بالكاد محسوسة بس بعدا موجودة. عم تعد عدد المنعطفات، مرور الوقت، والمسافة لحتى وصلوا لموقف الباص. لما أصابعها لقت طرف مقعدها المألوف، تركت ذراعو وطلعت عصاتها بتردد. "شكراً على القهوة." "ولا يهمك." بعدو واقف، قريب كفاية لتشم أنفاسو. هون ما في شي تخسرو. هادية وعفوية. "شو رقم تلفونك؟" سحبت موبايلها من الجيب الخلفي لجينزاتها وبلشت تكبس. صوت التعليق الصوتي السريع عم يلفظ كل تحكم وهي عم تحوم فوقو، عم ينبهها كل ما تكبس زر. "أربعة-صفر-تلاتة..." "امم؟" "ستة-خمسة-سبعة... تلاتة-تمانية-خمسة-واحد." "وصل. تمام. حلو." صوت خشونة شعر مجعد. أكيد عم يخبص فيه، عم يمرر أصابعو فيه. ما أخدت فرصة تطلب منو يوصف شكلو. يمكن المرة الجاية. ناس تانيين عم يمشوا بموقف الباص حواليهم. للمرة التالتة بعد الظهر، سمعت شخص عشوائي عم يعلق بصوت واطي على وش حدا. أول مرتين، فكرت إنو صدفة غريبة. شعور بالاستيعاب عم يدور بمعدتها، واستوعبت فجأة. آه. قبل ما تقرر إذا بدها تحكي شي عن الموضوع أو لأ، صوت خشخشة الباص اللي عم يقرب عم يدق بالشارع باتجاهها. بشكل محرج، قال: "يمكن بشوفك شي مرة؟" خبّت ابتسامة. قدامها، الباص وقف بصوت صرير، والأبواب انفتحت بصوت أزيز. "يمكن بشوفك شي مرة كمان. آه استنى، ما فيني..." قبل ما يتلبك ويصحح حالو، كانت عم تمشي لقدام، طرف العصا عم يدق بالأرض قدامها. رح تبعتلو رسالة بعد كم دقيقة، لتريحو.
تعليقات
إرسال تعليق