بعد الموت - الفصل العاشر والأخير :قبل أن أنسى
قبل أن أنسى
2025, أحمد عماد
رومانسية
مجانا
فلاش باك الفصل العاشر : قبل أن أنسى | طفل منطوٍ ومختلف، يدافع عن مسن يتعرض للتنمر، فتظهر فتاة غامضة تدعمه وتصبح صديقته المقربة. تنمو صداقتهما وتتحول إلى رابط عميق، لكن القدر يفرق بينهما بحادث مأساوي، حيث تموت الفتاة أمام عينيه. يترك هذا الحادث بطل الرواية وحيداً ومجروحاً، غارقاً في ذكرياتهما المشتركة.
الطبيب
رجل يرتدي زي أبيض، يتصرف بشكل هادئ وحاول طمأنة البطل بأنه بخير، لكنه يبدو متردد وغير صريح في بعض الأمور.المرأة السوداء
امرأة ترتدي ملابس سوداء، تبكي بصمت وتعانق البطل بحنان، تزعم أنها والدته.
فجأة، شعرتُ بنسمةٍ باردة تمرّ على وجهي، كأنها تحمل شيئًا من صوتها. أغمضتُ عيني… وبدأ المشهد يعود. لم أكن طفلًا عاديًا. كنتُ أميل إلى الصمت، لا أجد متعة في اللعب كما يفعل الآخرون، ولا أفهم سر الضحك الصاخب على أشياء لا تضحكني. كنتُ أرى العالم بطريقة مختلفة. الأشياء الصغيرة كانت تهمّني، وتفاصيل الوجوه كانت تثير فضولي. وكان هناك دائمًا شعور داخلي بأنني مختلف... لكنني لم أكن أعرف كيف أعبّر عن ذلك. في إحدى الأيام، وأنا في الصف الخامس، كنتُ جالسًا في فناء المدرسة وحدي. الشمس كانت تميل نحو الغروب، والهواء يحمل رائحة غبار خفيف. فجأة، سمعتُ ضحكات مرتفعة، متبوعة بأصوات سخرية. اقتربتُ ببطء، ورأيت مجموعة من الأولاد يقفون قرب سور المدرسة، يسخرون من رجل مسنّ من ذوي الاحتياجات الخاصة، كان يمرّ يوميًا من ذلك الطريق. لم يكن يؤذي أحدًا، فقط يمشي بصمت، بعصاه، وعيناه لا تنظران إلى أحد. أحسستُ بانقباض في صدري. لا أعرف ما الذي دفعني، لكنني اقتربت منهم وقلتُ بصوت مرتجف: "كفّوا عن ذلك… أهذا مضحكٌ بالنسبة لكم؟" ضحك أحدهم، وكان أطول مني، وقال: "ومن أنت لتأمرنا؟" ثم دفعني بيده فسقطتُ أرضًا. كنتُ أسمع ضحكاتهم، لكنني لم أتحرك. شعرتُ بالخذلان... وبالغضب. وفجأة، جاءت فتاة صغيرة، لم ألاحظ وجودها من قبل، وانحنت بجانبي، مدت يدها نحوي، وقالت بصوت خافت: "انهض… لا تدعهم يرون ضعفك." كانت عينها صافية، وفيها حزنٌ لا يشبه عمرها. أمسكتُ بيدها ونهضت، وبينما كنتُ واقفًا بجانبها، التفتَ الأطفال نحوها، وبدأوا يسخرون منها أيضًا. "أوه، ها هي البطلة!" "إنه يستعين بفتاة!" كانت ترتجف قليلاً، لكن وجهها ظل ثابتًا. حينها، شعرتُ بشيء يتغيّر داخلي… كأن شيئًا كان نائمًا واستيقظ. تقدمتُ نحو الفتى الذي دفعني، ونظرت إليه بثبات، ثم قلت: "الضعيف هو من يهاجم من لا يستطيع الرد. وأنت… أضعفنا جميعًا." لم يرد. فقط انصرف مع البقية، وهم يتهامسون. في ذلك اليوم، مشينا سويًا نحو بوابة المدرسة دون أن نتكلم كثيرًا. فقط، كانت تنظر أمامها بصمت، وأنا كنتُ أشعر بشيءٍ جديد… شيء يشبه الأمان. سألتُها ونحن على وشك الفراق: "ما اسمك؟" قالت دون أن تلتفت إلي: "ستتذكره حين تحتاج إليه." ورحلت. منذ ذلك اليوم، صارت جزءًا من عالمي، لا كصديقة عابرة، بل كظلٍّ لا يفارقني. كنا نذهب إلى المدرسة معًا، نعود معًا، نقرأ الكتب نفسها، نرسم على دفاتر الرياضيات حين نملّ من الأرقام، ونتبادل الرسائل على قصاصات صغيرة نخفيها بين طيّات الحقائب. كانت تملك قلبًا أكبر من سنها، وكنتُ أملك عقلًا أرهقه التفكير. كنا مختلفين… لكنها وحدها كانت تفهم صمتي، وتبتسم حين أكون غاضبًا دون أن تسأل لماذا. مرّت السنوات، وكبرت صداقتنا حتى تحوّلت إلى شيء لا اسم له، لكنه كان واضحًا بيننا. كأن أرواحنا تعرف ما لا نجرؤ على قوله. وفي تلك السنة… كان كل شيء يسير نحو الأفضل. كنا نخطط للدراسة معًا، للحياة معًا، ربما للمستقبل الذي لا نملك مفاتيحه، لكننا كنا نؤمن أنه سيكون لنا. لم نكن بحاجة إلى وعود، يكفينا أن ننظر في أعين بعضنا لنعرف أن كل شيء سيكون بخير. لكن الحياة لا تؤمن بالاستقرار، ولا بالعدالة. في أحد الأيام، تأخرتُ عن موعد اللقاء المعتاد. كنتُ أقف على الجهة المقابلة من الطريق، أبحث عنها بعيني، وإذا بها تظهر فجأة… تلوّح لي من بعيد، تبتسم تلك الابتسامة التي تعني كل شيء. بدأت تعبر الطريق نحوي، تركض بخفة كأنها طفلة، وأنا ألوّح لها بقلق لأنني لمحْتُ سيارة مسرعة تقترب… صرختُ: "توقّفي!" لكن الصوت لم يكن أسرع من القدر. في لحظة واحدة، دوّى صوت التصادم. ثم ساد الصمت. وجدتُ نفسي على الأرض، لا أشعر بجسدي، الدماء تغطي يدي، ورأسي يثقل. نظرتُ بجانبي… كانت هناك. جسدها الصغير ملقى، بلا حراك. زحفتُ نحوها، أمدّ يدي كأنني أستطيع إعادة الزمن. كانت عيناها نصف مفتوحتين، تشبهان السماء قبل المطر… كنتُ أرتجف، وقلتُ بصوت مبحوح: "لا ترحلي… أرجوكِ… انتظريني..." لكنها لم تجب. قبل أن أفقد وعيي، كانت صورنا كلها تمرّ أمام عينيّ: ضحكتها، صوتها، لمستها، دفاترنا، دفئها… ثم… الظلام. النهاية
تعليقات
إرسال تعليق