رواية من الريف للمدينة - اجتماعية

من الريف للمدينة

2025, أدهم محمد

اجتماعية

مجانا

يجد نفسه فجأة في قلب المدينة المزدحمة. تدور الرواية حول صراع كريم الداخلي بين هويته الريفية ورغبته في النجاح والاندماج في الحياة الحضرية. مع مرور الوقت، يواجه تحديات الحياة في المدينة، حيث يصبح العمل في مصنعٍ شاقًا، والضغوط المعيشية قاسية، وتزداد مشاعر الوحدة والضياع.

كريم

نشأ في الريف وعاش حياة بسيطة مليئة بالعمل في الحقول والهدوء الطبيعي

سامر

صديق كريم القديم من القرية، وهو شخص انتقل للمدينة قبل سنوات واعتاد على صعوباتها

فاطمة

شخصية رمزية تمثل صوت الحكمة والإنذار، وهي التي تلفت انتباه كريم إلى الثمن الذي قد يدفعه في المدينة
تم نسخ الرابط
من الريف للمدينة

 كنت أقف في وسط الحقل، أراقب الشمس وهي تميل نحو المغيب، ملقيةً ظلالاً طويلة على السنابل التي تحركها الرياح كأنها تهمس بأسرار لا أعرفها. كنت أعشق هذا المنظر، لكنه كان دائمًا يثير في نفسي شيئًا لا أستطيع وصفه. شعور بأن هذا ليس مكاني، أو على الأقل ليس مكاني الوحيد. كنت أتساءل، هل هناك شيء آخر ينتظرني خلف هذه التلال، بعيدًا عن هذه السماء التي اعتدت النظر إليها كل يوم؟

في ذلك اليوم بالتحديد، جاءتني رسالة. كانت رسالة بسيطة، مطوية بعناية، لكنها كانت تحمل ثقل العالم بأسره. فتحتها ببطء، وكأنني أخشى أن يخرج منها شيء يغير حياتي إلى الأبد. قرأتها مرة، ثم مرتين، ولم أصدق عيناي. كانت من صديقي القديم، سامر، الذي غادر قريتنا منذ سنوات وذهب ليعيش في المدينة. أخبرني أن هناك وظيفة تنتظرني هناك، وأنه يمكنني البقاء معه حتى أستقر.

وقفت في الحقل، أحاول استيعاب الفكرة. المدينة؟ كنت أعرف عنها القليل فقط، مما سمعته من سامر أو شاهدته في التلفاز. بنايات شاهقة، شوارع مزدحمة، أضواء لا تنطفئ، ووجوه غريبة في كل مكان. فكرة الانتقال إليها كانت تخيفني بقدر ما كانت تغريني. هل أستطيع ترك الحقول التي نشأت فيها؟ هل أستطيع التخلي عن صوت الأذان الذي يصلني من المسجد الصغير في قريتنا؟ عن صوت أمي وهي تناديني من بعيد عندما يحين وقت الغداء؟

لكن في أعماقي، كنت أعرف أنني سأذهب. لم أكن أريد أن أقضي حياتي أتساءل عما كان يمكن أن يكون. في تلك الليلة، جلست مع والديَّ حول مائدة العشاء، وأخبرتهم بالأمر. لم تكن المفاجأة كبيرة عليهما؛ ربما لأنهما كانا يعرفانني أكثر مما أعرف نفسي. أبي، برغم حزنه، وضع يده على كتفي وقال: "اذهب، كريم. المدينة ليست سهلة، لكنك لست شابًا عاديًا. ستجد طريقك."


كانت تلك الليلة الأخيرة لي في المنزل مليئة بالصمت الذي لم يكن عاديًا. جلست على سريري القديم في الغرفة الصغيرة التي كنت أنام فيها منذ طفولتي. الجدران كانت مليئة بالذكريات؛ صور صغيرة علّقتها على الحائط، خطوط على الباب كنت أقيس بها طولي كل عام، ونافذة تطل على الحقل الذي كان دائمًا عالمي الوحيد. نظرت إلى السماء عبر النافذة، النجوم كانت تلمع بوضوح في ذلك الليل الريفي الهادئ. كنت أعرف أنني لن أرى هذا المشهد مرة أخرى بالطريقة نفسها. شعرت بشيء ينكسر بداخلي، شيء يشبه قطعة من قلبي تُقتلع.

عند الفجر، خرجت من المنزل وحملت حقيبة صغيرة على كتفي. أمي كانت تقف عند الباب، تحاول أن تخفي دموعها لكنها لم تستطع. احتضنتها بشدة، وسمعت صوتها المرتعش وهي تهمس: "الله يوفقك يا ابني." أبي كان صامتًا، لكنه مدّ يده ليصافحني، وكانت يده ترتجف قليلاً. لم أقل شيئًا. لم أستطع. فقط ألقيت نظرة أخيرة على البيت، على الحقول، على كل شيء، ثم سرت بعيدًا.

وصلت إلى المدينة بعد رحلة طويلة، وكان كل شيء مختلفًا منذ اللحظة التي وضعت فيها قدمي هناك. محطة القطار وحدها كانت عالمًا بحد ذاته، مليئة بالوجوه الغريبة والصخب الذي لم أكن معتادًا عليه. أضواء النيون، أصوات السيارات، والأحاديث المتداخلة من كل جانب. شعرت بأنني غريب تمامًا، كأنني دخلت إلى مسرح كبير لا أعرف دوري فيه.

سامر كان في انتظاري عند المحطة. بدا مختلفًا تمامًا عما أتذكره؛ ملابسه أنيقة، وابتسامته واسعة، لكن عينيه حملتا شيئًا من التعب الذي لم أكن أراه من قبل. احتضنني بحماس، وقال: "مرحبًا بك في المدينة، كريم! هنا ستبدأ حياتك الحقيقية."

قادني إلى شقته التي كانت صغيرة ومزدحمة بالأثاث. غرفة واحدة فقط، وسرير صغير بجانب النافذة. قال لي: "هذا مكان بسيط، لكننا سنجعل الأمور تعمل." كنت ممتنًا له، لكنني شعرت بأنني في عالم ضيق، وكأن الجدران تضيق عليّ.

أول يوم لي في العمل كان أصعب مما توقعت. الوظيفة كانت في مصنع صغير، حيث كان عليّ العمل على خط إنتاج مزدحم. المهمة بسيطة لكنها متكررة: الوقوف لساعات طويلة، فحص القطع المعدنية ووضعها في صناديق. المكان كان صاخبًا، وآلة التكييف بالكاد تعمل. العرق كان يتصبب مني، ويدي بدأت تؤلمني بعد ساعات قليلة. العمال من حولي كانوا بالكاد يتحدثون، كل منهم غارق في عالمه الخاص.

بعد انتهاء اليوم الأول، كنت متعبًا بشكل لا يصدق. عدت إلى شقة سامر، ورميت نفسي على السرير، لكنني لم أستطع النوم. فكرت في أمي وأبي، في الحقول التي تركتها، وفي السؤال الذي كان يلحّ عليّ: "هل كان هذا هو القرار الصحيح؟"

الأيام الأولى في المدينة كانت اختبارًا صعبًا. كنت أستيقظ كل صباح قبل شروق الشمس، أسير في الشوارع الباردة حتى أصل إلى المصنع. لم يكن لدي الوقت الكافي لتناول الإفطار، وغالبًا ما كنت أعتمد على شطيرة بسيطة أشتريها في طريقي. العمل كان يزداد صعوبة يومًا بعد يوم، خاصة عندما بدأت يداي تؤلمانني أكثر بسبب الوقوف الطويل والحركة المتكررة.

سامر كان يحاول أن يكون داعمًا، لكنه كان غارقًا في مشاكله الخاصة. اكتشفت أنه يمر بضائقة مالية كبيرة، وأنه يعمل في وظيفتين لتغطية نفقاته. كنت أراه يعود إلى الشقة في وقت متأخر من الليل، وعيناه مثقلتان بالإرهاق. لم أكن أريد أن أزيد عليه بمتاعبي، لكنني كنت أشعر أنني أغرق.

ذات ليلة، قررت أن أتمشى في شوارع المدينة. كنت بحاجة إلى الهروب من كل شيء، ولو لبضع ساعات. سرت بين الأزقة، أراقب الناس من حولي. كان هناك شاب يبيع الزهور عند زاوية الشارع، امرأة تجلس على الرصيف وتبيع الخبز، وعازف غيتار يعزف لحنًا حزينًا تحت أضواء الشارع. شعرت بأنني جزء من لوحة كبيرة، لكنني لم أكن أعرف مكاني فيها.

وقفت أمام نافذة متجر صغير، ورأيت انعكاسي في الزجاج. وجهي بدا متعبًا، عيناي تحملان ظل الحنين والحيرة. كنت أشعر أنني أعيش حياة ليست لي، أنني أرتدي قناعًا لا يناسبني. في تلك اللحظة، تذكرت كلمات أبي: "المدينة ليست سهلة." كانت كلماته ترن في أذني، وكأنها تحذرني من الاستسلام.

مرت أسابيع، وبدأت أتكيف قليلاً مع الحياة في المدينة، لكن الصعوبات لم تكن تنتهي. كنت أواجه تحديات مالية، أعيش على القليل وأحاول توفير أكبر قدر ممكن. شعرت بالوحدة في كثير من الأحيان، خاصة عندما كنت أجلس في الشقة ليلاً، أتساءل كيف كانت تسير الأمور في قريتي. كنت أتخيل أمي وهي تسقي النباتات، وأبي يجلس تحت الشجرة الكبيرة في الفناء، وأصدقائي يلعبون كرة القدم في الساحة.

لكنني لم أكن أريد أن أعود. كنت أعرف أن العودة تعني الفشل، وأنني لا أستطيع أن أخيب أمل والديَّ اللذين وضعا ثقتهما فيّ. كنت مصممًا على إيجاد طريقي، مهما كان الثمن.



مع مرور الأشهر، بدأت أعتاد الحياة في المدينة، لكن التكيف لم يكن يعني الراحة. كنت أتعلم كيف أتنقل في الشوارع المزدحمة، كيف أقرأ الوجوه الغريبة التي تمر بي، وكيف أجد زاوية صغيرة من السكينة في كل هذا الصخب. العمل في المصنع أصبح أقل إرهاقًا جسديًا مع الوقت، لكن شيئًا آخر بدأ ينهش في روحي. كنت أشعر بأنني أتحول إلى آلة. حركة متكررة بلا تفكير، وأيام تمر بلا جديد.

في أحد الأيام، بينما كنت جالسًا في استراحة قصيرة في المصنع، جلست بجانبي امرأة مسنة تعمل معنا. كانت صامتة دائمًا، بالكاد تتحدث مع أحد. فجأة، نظرت إليّ وقالت:
"هل تعرف، يا بني، أن المدينة تبتلع الناس؟"
تفاجأت بكلماتها، فسألتها: "ماذا تقصدين؟"
أجابت بنبرة حزينة: "المدينة تعطيك الفرص، لكنها تأخذ منك نفسك. تصبح جزءًا منها، تفقد من أنت."

كانت كلماتها ترن في أذني طوال اليوم. هل كنت أتحول إلى شخص آخر؟ هل كنت أفقد جزءًا من نفسي في كل خطوة أخطوها هنا؟

ذات يوم، بينما كنت أعود من العمل، قررت أن أزور مكتبة صغيرة رأيتها أكثر من مرة ولم أدخلها. كانت المكتبة ضيقة ومليئة بالكتب القديمة. الهواء داخلها كان يحمل رائحة الورق المعتق. تجولت بين الأرفف، حتى عثرت على كتاب صغير بغلاف جلدي قديم. كان عنوانه "رحلة بلا عودة". شعرت بانجذاب غريب لهذا الكتاب، فاشتريته.

عندما عدت إلى الشقة، جلست على سريري وبدأت أقرأ. كان الكتاب يحكي عن رجل ترك قريته بحثًا عن حياة جديدة، لكنه وجد نفسه محاصرًا في دوامة من الأحداث التي غيرت كل شيء في حياته. شعرت أنني أقرأ عن نفسي. كل كلمة، كل سطر، كان وكأنه يصف ما أعيشه. لم أستطع التوقف عن القراءة حتى انتهيت من الكتاب في تلك الليلة. كانت نهايته غامضة، حيث يختفي الرجل فجأة في مدينة لا يعرفها أحد، ولا يعرف حتى هو كيف وصل إليها.

في يوم آخر، أثناء عودتي إلى الشقة، قررت أن أسلك طريقًا مختلفًا. كنت بحاجة إلى تغيير، حتى لو كان بسيطًا. الشارع الذي سلكته كان هادئًا بشكل غريب، على عكس الشوارع المزدحمة التي اعتدت عليها. المنازل كانت متلاصقة، والنوافذ مغلقة بإحكام. شعرت بشيء غير مريح، لكنني واصلت السير.

بينما كنت أمشي، سمعت صوت خطوات خلفي. التفت، لكن لم يكن هناك أحد. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي، لكنني حاولت تجاهلها. بعد بضع دقائق، تكرر الصوت مرة أخرى، هذه المرة أقرب. التفت بسرعة، ورأيت شخصًا يقف بعيدًا تحت ضوء خافت. لم أتمكن من رؤية وجهه بوضوح. توقفت لبرهة، ثم تابعت السير بخطوات أسرع.

عندما وصلت إلى الشقة، كنت ألهث من القلق. أغلقت الباب خلفي وألقيت بنفسي على السرير، لكنني لم أستطع النوم. أفكار كثيرة كانت تدور في رأسي: من كان ذلك الشخص؟ وهل كان يتبعني فعلًا، أم أن المدينة بدأت تلعب بعقلي؟

في الأشهر التالية، ازدادت الأمور غرابة. بدأت ألاحظ أشياء لم أكن ألاحظها من قبل: وجوه مألوفة تتكرر في أماكن مختلفة، أضواء تنطفئ فجأة في الشوارع التي أمشي فيها، وصوت خطوات خلفي في أكثر من مناسبة. كنت أعتقد أنني أتوهم، لكن الإحساس بالخطر لم يتركني.

ذات ليلة، استيقظت على صوت طرقات خفيفة على نافذتي. كانت الشقة في الطابق الثاني، ولا يمكن لأحد أن يصل إلى النافذة بسهولة. نهضت ببطء، ونظرت من النافذة، لكن لم يكن هناك أحد. شعرت بأنني محاصر بين حقيقة لا أفهمها وأوهام بدأت تسيطر عليّ.

في النهاية، قررت أن أعود إلى الكتاب الذي اشتريته. أردت أن أقرأه مرة أخرى، لعلي أجد فيه إجابة لما يحدث معي. لكن عندما فتحت الكتاب، وجدت أن الصفحات كانت فارغة. كل الكلمات التي قرأتها من قبل اختفت. شعرت برعب لا يوصف. هل كنت أحلم؟ هل كان الكتاب موجودًا حقًا؟

تركت الكتاب على الطاولة، وجلست على السرير، أحدق في الفراغ. سمعت صوتًا غريبًا قادمًا من الخارج. نهضت وفتحت الباب، لكن الممر كان خاليًا. عندما عدت إلى الغرفة، وجدت الكتاب مفتوحًا على الصفحة الأخيرة، والسطور التي ظهرت فيه كانت تقول:
"أحيانًا، تكون المدينة مجرد بداية... والنهاية تنتظرك في مكان لا يمكن لأحد أن يراه."

في صباح اليوم التالي، لم أذهب إلى العمل. خرجت من الشقة، وسرت بلا هدف في شوارع المدينة. كنت أشعر أنني أبحث عن شيء، لكنني لا أعرف ما هو. كنت أسير وأختفي تدريجيًا بين الناس، حتى شعرت بأنني لم أعد موجودًا.

تعليقات

إرسال تعليق

authorX

مؤلفون تلقائي

نظام شراء